سليمان النابلسى هو من أكثر الشخصيات السياسية الأردنية التى تركت بصماتها على حقبة بكاملها فى المملكة الأردنية، منذ عشرينات القرن الماضى
سليمان النابلسى هو من أكثر الشخصيات السياسية الأردنية التى تركت بصماتها على حقبة بكاملها فى المملكة الأردنية، منذ عشرينات القرن الماضى عندما كانت لا تزال إمارة، وعلى امتداد العقود الستة التى تلت تلك الحقبة التأسيسية للدولة الأردنية الحديثة. وهو أمر تجمع عليه مختلف القوى السياسية الأردنية من كل الاتجاهات والتيارات.
ورغم أننى كنت أعرفه بالاسم أولاً ، ثم فى اللقاءات التى كانت تجمعنا فى مؤتمرات السلم والتضامن، فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فإن معرفتى الحقيقية بدوره وبوزنه فى الحياة السياسية الأردنية، ودوره ووزنه فى قلب الحركة الوطنية الأردنية، قد تأخر إلى ما بعد وفاته. ومعروف أن النابلسى كان الحاضر الدائم فى كل المؤتمرات وفى كل المناسبات ذات الصلة بالقضايا الوطنية العربية، لا سيما منها تلك التى تكون فيها القضية الفلسطينية مركز الاهتمام الأساسي.وهذا ما جعله زعيماً وطنياً أردنياً وفلسطينياً فى آن.
ينتسب سليمان النابلسى إلى أسرة من كبار الملاكين تمتعت بنفوذ اجتماعى وسياسى كبير. كان والده فارس وجدّه محمد من أثرياء مدينة السلط ومن كبار ملاكيها. كما كان عمه الحاج فوز النابلسى مستنطقاً قضائياً فى المدينة. وهى وظيفة قضائية رفيعة تماثل وظيفة النائب العام فى أيامنا هذه. ورغم استقرار أسرة سليمان فى السلط منذ بداية القرن الماضي، فقد بقيت على صلات وثيقة بعائلة النابلسى فى مدينة نابلس الفلسطينية.
وكانت تلك العائلة لا تقل ثراءً ونفوذاً عن فخذها المقيم فى مدينة السلط الأردنية. وقد وفَّر ثراء الأسرة لسليمان فرصة الدراسة فى أفضل المدارس والجامعات فى عصره. لكنه، مثل أبناء جيله، بدأ الدراسة فى الكتَّاب قبل أن يذهب إلى المدرسة. وفى الكتَّاب تعلَّم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن وألمَّ بالمبادئ الأولية فى الحساب. ثم انتقل بعد ذلك إلى كلية النجاح فى نابلس. والتحق بعد ذلك بالكلية الإنجليزية فى القدس. وبعد سنة من الدراسة فى هذه الكلية أرسله والده إلى الجامعة الأمريكية فى بيروت، التى تخرَّج فيها فى عام 1932 بدرجة بكالوريوس فى الاقتصاد.
فى الجامعة الأميركية تنامت شخصية سليمان واتسعت ثقافته. وبرز فى مواقفه القومية التأثير الذى كان قد مارسه عليه أستاذه مدير كلية النجاح فى نابلس عزت دروزة، أحد كبار رواد الفكر القومى العربى الحديث. وبدأ يظهر تفوّقه فى الدراسة ابتداءً من السنة الأولى فى الجامعة الأمريكية. فاختير فى نهاية ذلك العام خطيباً بالعربية فى مهرجان التخرج. وقاده وعيه المبكر إلى خوض غمار العمل السياسى على نطاق الجامعة أولاً، ثم على صعيد النشاط السياسى خارجها. وكان معظم طلبة الجامعة من البلدان العربية: مصر والسودان وسوريا والعراق والحجاز وفلسطين وشرق الأردن. وكان عدد الطلاب من لبنان هو الأقل بالمقارنة مع البلدان العربية الأخرى.
تخصص سليمان النابلسى فى الاقتصاد. ولكن نشاطه الطلابى والصحفى أخذ من وقته الشيء الكثير. فقد شارك فى إنشاء »النادى الفلسطينى الأردني« خارج الحرم الجامعي، حيث كان يتردد عليه الطلبة الأردنيون والفلسطينيون. وانضم إلى »جمعية العروة الوثقى« فى الجامعة الأمريكية التى كان لها دور كبير فى تسييس الحركة الطلابية العربية فى بداياتها.
اكتسب سليمان فى الجامعة الأمريكية ثقافة عامة واسعة. واتضح اتجاهه السياسى خلال دراسته وممارسة نشاطه فيها. وتكونت قناعاته الفكرية القومية أولاً، ثم القومية اليسارية، ابتداءً من تلك المرحلة. وكان يرى منذ ذلك الوقت أن الليبرالية، بالمعنى الذى يرمز إلى الحرية والديمقراطية، هى الطريق إلى تحرير بلداننا وإلى استقلالها. وهى الطريق إلى تحقيق نهوضها من التخلف والاستبداد. وكان بذلك ينفتح على روح العصر. فأقبل على قراءة الكتب بنهم شـديد. وكانت قراءاته المتعددة هى المصدر الأساس فى سـعة ثقافته وفى تطور قناعاته الفكرية.
عاد سليمان إلى مدينة السلط بعد حصوله على بكالوريوس فى الاقتصاد فى عام 1932. وعرض عليه مدير المعارف آنذاك وظيفة معلم فى المدينة فلم يقبل بها. وفضَّل عليها أن يكون معلماً فى مدينة الكرك. فأغضب بذلك أهله. وخلال ممارسته مهنة التعليم عمل على نقل الأفكار التى تعلَّمها فى الجامعة إلى مدرسته وطلبته. وبدأ من أجل ذلك بتنظيم ندوات خطابية. وكوَّن جمعية للتمثيل من الطلبة قدم خلالها حفلات السمر والروايات. إلاَّ أنه لم يبقَ فى التعليم إلاَّ عاماً واحداً، استقال فى نهايته من دائرة المعارف. وعين بعد ذلك رئيساً لديوان رئاسة الوزراء. وكان ذلك فى عام 1932.
وبقى فى منصبه هذا حتى عام 1938. ثم انتقل إلى العمل فى وزارة المالية. واكتسب خبرة جيدة فيها. وأظهر تفانياً فى عمله. فعُيِّن رئيساً لدائرة تدقيق الحسابات (ديوان المحاسبة اليوم). ثم عُيِّن سكرتيراً عاماً لمجلس الوزراء فى عام 1942. لكنه ما لبث أن استقال من عمله فى الحكومة ليتفرغ للعمل السياسي. وإذ غادر الوظيفة الحكومية فقد قبل من دون تردد عرضاً تقدم به إليه عبد الحميد شومان رئيس مجلس إدارة البنك العربى بتولى منصب مدير فى البنك.
وهكذا ومنذ ذلك التاريخ تحول سليمان النابلسى إلى شخصية سياسية. وظل يكبر إلى أن صار زعيماً مرموقاً فى الحركة الوطنية. ودخل السجن مرات عديدة. وتولَّى رئاسة الوزراء عدة مرات، من موقعه السياسى الذى حدده لنفسه. وهو الموقف الذى قاده أكثر من مرة للخروج من موقع المسئولية بقرار ملكي، لا سيما فى عهد الملك حسين.
وفى الواقع فإن النابلسى على امتداد حياته الطويلة (1908ـ 1976) قد تميز عن كثيرين سواه من رجالات الأردن يغنى شخصيته ويغنى تجربته السياسية. وكانت له فى المحطات الأساسية فى تاريخ الأردن مواقف غير مسبوقة، سواء فى مواقع المسئولية فى الحكومات المتعاقبة، أم فى صفوف المعارضة. ولا يتسع المجال هنا للدخول فى تفاصيل تلك المواقف فى تلك المواقع المختلفة أكثر مما حاولت أن أفعله. إلاَّ أننى أود مع ذلك أن أتوقف عند حقبة عام 1956 التى شهدت تحولاً كبيراً فى المملكة كانت الانتخابات البرلمانية الديمقراطية التعبير الأبرز عنها. وهى الانتخابات التى أتت بالنابلسى إلى رئاسة الوزارة. واقترنت بإنجازات وطنية ديمقراطية ذات أهمية تاريخية. لكن التجربة لم تعش طويلاً.
وثمة تقييمات مختلفة حولها، بما فى ذلك عند النابلسى نفسه. ويكاد يكون هناك شبه إجماع من قبل القيادات السياسية التى عاصرت تلك المرحلة بأن ثمة أخطاء فادحة من قبل القوى الوطنية، فى العلاقة بينها أولاً، ثم فى موقفها من النظام الملكي، وصولاً إلى الصدام الذى أدى إلى إقالة حكومة النابلسى وإلى بدء حملة قمع استمرت سنوات طويلة.
وكان الأردن فى الفترة التى سبقت انتخابات 1956 المشار إليها قد اختار الطريق الوسط بين محور بغداد ومحور القاهرة - الرياض الذى انضمت إليه سوريا بعد تحررها من الدكتاتورية العسكرية فى عام 1954. وكان الملك حسين قد اتخذ قراراً جريئاً بتعريب الجيش الأردنى مقرناً إياه بالسماح للأحزاب بممارسة نشاطها من دون أى قرار قانونى بشرعيتها. وقد جاءت نتائج انتخابات عام 1956 الشهيرة انتصاراً كبيراً للأحزاب الوطنية. فقد حصل حزب النابلسي، الحزب الوطنى الاشتراكي، على 72 ألف صوت، وحصل الشيوعيون باسم حزب الجبهة الوطنية على 51 ألف صوت، وحصل حزب البعث العربى الاشتراكى على 34 ألف صوت. وتشكلت حكومة النابلسى وفيها ستة وزراء من الحزب الوطنى الاشتراكى ووزير من حزب البعث ووزير من حزب الجبهة الوطنية وثلاثة وزراء مستقلين.
وكانت النهاية المأساوية لتلك التجربة قد بدأت فى الوقت الذى كانت تتصاعد فيه الأحداث بضرورة التغيير فى المملكة. وهو التغيير الذى فهمه الملك تغييراً للنظام، فأقال الحكومة. وحصلت مظاهرات كبيرة بتحريض من الأحزاب الوطنية ضد ذلك القرار. كما حصل صدام داخل القوات المسلحة. وانتهى الأمر بعودة الملك حسين عن كل إجراءاته السابقة، وعن كل مواقفه المتصلة بها.
واتخذ موقفاً واضحاً إلى جانب حلف بغداد. وبدأ، بالتعاون مع العراق، على تحقيق الاتحاد الهاشمى المؤلف من المملكتين الهاشميتين العراقية والأردنية. وهو الاتحاد الذى منعت تطبيقه فى اللحظات الأخيرة ثورة الرابع عشر من تموز فى العراق فى عام 1958.
على أن النابلسى كان حريصاً على التوفيق على الدوام بين أفكاره القومية التى جعلته يعتبر نفسه بعد ثورة 23 تموز المصرية كبير الناصريين فى الأردن، وبين يساريته التى عبر عنها بعلاقته الوطيدة مع الشيوعيين والبعثيين، وبين فلسطينيته، بالمعنى السياسي، التى جعلته من أوائل الذين وقفوا إلى جانب الشعب الفلسطينى فى معركته الوطنية، حتى قبل نشوء المقاومة بعد هزيمة حزيران فى عام 1967.
ويروى فى بعض أحاديثه، ويروى أصدقاؤه من قيادات الأحزاب الأخرى، كيف أنه كان يتمزق وهو يدافع عن حق الفلسطينيين فى الكفاح من داخل الأردن، إزاء مواقف القيادات الفلسطينية التى كان يرى أنها كانت فى مواقفها المتطرفة تقود إلى الصدام مع المملكة. ولم يكن قادراً على إيقاف المجزرة ضد الفلسطينيين التى حصلت فى عام 1970.
ويمكن القول من دون مغالاة أن سليمان النابلسى كان الأكثر بريقاً والأكثر تأثيراً، والأكثر زعامة بين كل القيادات السياسية التى عرفتها المملكة منذ قيامها كإمارة فى أعقاب اتفاقية سايكس ـ بيكو، وصولاً إلى المرحلة التى أصبحت فيها دولة ذات موقع فى المنطقة خاص بها. لذلك فإن سيرة هذا الزعيم الكبير هي، فى الواقع، سيرة وطن وسيرة شعب وسيرة حركة وطنية فى آن.
المقال نقلاً عن صحيفة "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة