الروائي العراقي المغترب محمد حياوي يقدم في روايته "خان الشابندر" شهادة حية عن بغداد وما ألمّ بها من واقع مأساوي من خلال سيرة المكان
حكايات متشابكة عن نساء من بسطاء بغداد المسحوقين والواقع المأساوي للمدينة ترويه "خان الشابندر" الصادرة حديثًا عن دار الآداب البيروتية، في الرواية التي حلت ضمن الروايات الأكثر مبيعًا في معرض أبوظبي للكتاب، يقدم الروائي العراقي المغترب في هولندا محمد حياوي شهادة حية عن بغداد، وما ألمَّ بها من واقع مأسوي من خلال سيرة المكان المتمثلة في حي "حيدرخانة"، ويحكي قصص نساء جعلتهم الحياة يرزحن تحت وطأة الفقر والحرب والظلم والطغاة، فتحولن لبائعات هوى وانتهت حياتهن بطريقة بشعة كما انتهت بغداد.
تدور أحداث الرواية في بغداد ما بعد سقوط صدام حسين وتحديدًا في العام 2003، لكنه يتلاعب بالزمن الروائي فتارة يجعله آنيًا وتارة ماضيًا. ويستعين الروائي تارة بتقنية "البطل الراوي" حيث يجسد حياوي بلغة سردية شاعرية، تجربته الذاتية عند عودته إلى العراق بعد 20 عامًا، وكيف لمس تحولات جذرية في المجتمع العراقي جعلته يشعر بغربة في وطنه، مصورًا مشاعره المتأرجحة ما بين الفجيعة والانسحاق المجتمعي بين ممارسات الديكتاتورية وبشاعة الإرهاب وانفلات الأمن والحرب الأهلية، تحاصره ذكريات الماضي.
واستعان الكاتب في فصولة معينة بلغة الحوار بين الشخصيات ليكشف الجانب الإنساني وراء كل شخصية من شخوص "خان الشابندر"، مطعمًا إياه بلغة صوفية أضفت الغموض على الأحداث وأعطتها طابعًا أسطوريًّا دراميًّا وفي الوقت ذاته واقعيًّا مريرًا.
حياوي الذي هاجر إلى أوروبا منذ 20 عامًا، هاربًا من بطش نظام صدام يقول لـ"العين"، إن "خان الشابندر شأنها شأن رواياتي ونصوصي السابقة، استندت إلى محفّتي السرد المتدفق والحوار التلقائي الذي حاولت أن أصقل بواسطته شخوصي أجسّد ملامحهم، تلك الملامح التي آمل أن لا ينساها القارئ بسهولة، فكلّما أوغلنا في القراءة كلّما تكشفت طبيعة الشخصيات السحرية الخارجة من عمق المأساة والعنف، لكنّها أيضًا الموغلة في الحاضر الدامي وقسوته".
حياوي يعتبر أنه "ليس من باب مصادفة تقديم نصي الاستثنائي هذا بمقطع شعري لشاعرة أفغانية شابّة قتلها مسوخ طالبان "جسدي طازج مثل أوراق الحنّاء.. أخضر من الخارج لكنّه لحم نيئ من الداخل"، "رحيلة موسكا"، الشابّة الأفغانية المجهولة والمغتصبة والجميلة، التي استلّلتها في حومة غوصي العميق في النصوص المكتوبة باللغة الفارسية، ربما وجدتها تشبه إلى حدٍ كبير بطلاتي روايتي الجديدة "خان الشّابندر" المظلومات من بائعات الهوى الشابات في "الحيدرخانة"، قاع المدينة وخلاصة حياتها السرّية، حيث البيوت القديمة الآيلة للسقوط تحتضن بين جدرانها حطام الأحلام والأمنيات المُحبطة".
"خان الشّابندر" هي حكاية الطيّبات اللواتي تحوّلن إلى ملائكة من فرط محبتهن وعفويتهن وبساطتهن المتناهية، قصصهن صادمة وشخصياتهن ضوئية، كما لو كنّ سقطن من عربة الأحلام الصاعدة نحو السماء، كل واحدة منهن عالم قائم بذاته، يتفاوتن بالوعي والجمال ويتوحدن في الحب، وأحلامهن بسيطة للغاية، النجاة من الموت.
يعطى حياوي بعض المفاتيح البسيطة التي يراها ضرورية للقراءة؛ إذ يقول: "أعتقد أن (خان الشّابندر) رواية عراقية جديدة تحاول أن تبتكر شكلها ونمطها البسيط والمُعقد في آن لتمسك بتلابيب القارئ وتضطره للمُضي فيها حتّى النهاية، فثمَّة الكثير الذي يتطلب بحثه على صعيد شخصياتها، وأحداثها التي تركتها منقوصة لتبتكر تكوّنها الغريب في مخيَّلة القارئ نفسه".
ويلفت حياوي "لعل المقطع الاستهلالي القصير الذي افتتحت به الرواية، والمكتوب بلغة شعرية خاصّة للغاية، يلخص فحوى الرواية كلها بشكل مكثف للغاية، يُمهد القارئ ويعصف بذهنه ويوقظه ليكون مستعدًا لما سيأتي من أحداث متتالية، كما لو كان وعيدًا وحزمة نصائح فادحة توجهها "هند" بطلة الرواية، ليس للكاتب وحسب، بل للقارئ أيضًا، وهي تحدّثه عن البحث الواهم عن الكمال الذي سيفقد الحياة متعتها، "تلك الحياة التي افقدتنا الوصايا متعتها"، أو "لن نعود كما كنا أبدًا"، أو "الغرق في الحياة الفاسدة حيث يلّتهم عقلك روحك"، هذه الإحالات الفلسفية البسيطة ستكون لاحقًا المُحرّك التحتاني لثيمة الرواية، وان لم يشعر بها القارئ بشكل مباشر، فالوصايا والحدود والعيب والتردّد والخجل والخوف، كلّها مفسدات للمتعة والحياة البسيطة والقصيرة أو العابرة، على الأقل من وجهة نظر "هند"، حتى يأتي تحذيرها الأخير الذي توجهه للسارد أو العاشق أو بطل الرواية "علي" المسحور بجمالها وجمال عالمها، ومن خلاله إلى القارئ أيضًا..".
حياوي يقول: "لقد أعطبت عن الكتابة والتخيّل، عندما تركت العراق مُرغمًا، تعطّلت ذاكرتي في المنفى لأكثر من 20 سنة، ورفضت إعادة نشر أعمالي السابقة ما لم يصدر جديد، لكنني عندما عدت للعراق بعد ذلك الغياب وَمَضْت في مخيّلتي الحكاية وأنا أتجوّل في بغداد المُخرّبة والمُهملة، فثمة في كل زاوية "زينب" بيّاعة الكعك التي لمحتها في أزقّة الصدرية أثناء مرور عابر، و"أبو حسنين" المصري مُصلِّح المدفآت، الذي يرفض مغادرة بغداد ليظل بجوار الثرى الذي دفن فيه ولده بعد أن قتل في الحرب، و"نيفين" المسيحية الأخيرة، لكن الومضة الكبرى كانت عندما اصطحبني أحد أصدقائي إلى منطقة "الحيدرخانة"، حيث البيوت المهجورة وسطوحها الغامضة التي تطلّ على خرائب خان الشابندر المهولة، ليعيد خيال الروائي فيّ بناء تلك العوالم من جديد، فتستقيم جدران الخان وتُفرش أرضياته بالبسط وسجاجيد الكاشان ويعبق البخور في أجوائه ويؤدي المندائيون صلواتهم في المندل وتبرق عيون الفضة، لاستخدم هذه العوالم كخلفية لأحداث روايتي".
وعن رؤيته النقدية لـ"خان الشابندر" يقول الناقد الأدبي مصطفى عبدالله، رئيس تحرير أخبار الأدب الأسبق، إن "حياوي ابن بار لنجيب محفوظ في تأثره به بداية من عنوان الرواية الذي هو عتبة لها وله دلالته، في اعتماده في بنائه السردي على إبراز المكان، وتجسيده لشخصيات العمل.. إنه روائي محترف لغته الروائية ماهرة واستطاع دمج الزمن الآني بزمن الرواية، وهي عبارة عن فصول متسارعة لا تحمل أرقام أو أسماء، وتدور على مستويين ما بين الواقع والمتخيل".
خاتمة الرواية تصور مرارة الواقع العراقي بألم، حيث تسرد نحر الميليشيات لرقاب النساء، "لم ينقطع المطر لثلاثة أيام متواصلة، كانت الرؤوس المزروعة فوق الطوب مبللة بالكامل وخصلات الشعر المبلول ملتصقة على الوجوه، لكن الماء غسل بقايا الدم الذي ظل يجري كالمزاريب ليومين كاملين".