"المرأة الحجرية".. رواية ترصد سقوط الإمبراطورية العثمانية
"المرأة الحجرية" هي الكتاب الثالث من خماسية تاريخ الإسلام للروائي باكستاني الأصل وتدور حول الأيام الأخيرة للإمبراطورية العثمانية
تحكي الأمثولة القديمة عن تمثال من حجر لامرأة جميلة تتأهب في وضع الحركة وتصيخ السمع لمتحدث يقبع عند قدميها يفضي في طقس يشبه طقس الاعتراف بالحكايا والأسرار، وربما يمثل فعل الإفضاء هنا هربا من مصير محتوم أو فعل مقاومة أخيرا.. باستعارة لافتة من الأمثولة السابقة، يسمي الكاتب والروائي والمنظر السياسي الشهير طارق علي، روايته "المرأة الحجرية"، الصادرة ترجمتها العربية أخيرا عن دار الكتب خان بالقاهرة، بتوقيع محمد عبد النبي.
"المرأة الحجرية"، هي الكتاب الثالث من خماسية تاريخ الإسلام للروائي البريطاني من أصل باكستاني، وتدور حول "الأيام الأخيرة للإمبراطورية العثمانية، من خلال حكايات شخصية وحميمة لأفراد عائلة ثرية مختلفي الاتجاهات والميول، وحيث تذهب نساء بيت العائلة، فرادى عند صخرة كبيرة على شكل امرأة ويفضين لها بأسرارهن"، بحسب مترجمها محمد عبد النبي.
في العام الأخير من القرن التاسع عشر، وقبل بزوغ قرن الهول الأعظم (القرن العشرين)، تدور أحداث الرواية وتتشابك مصائر شخوصها في اللحظات الأخيرة التي تشهد احتضار الإمبراطورية العثمانية المتداعية، في العام 1899، لحظة تراخي رجل أوروبا المريض، وسقوط الإمبراطورية، والجدل دائر على أشده، والمعركة العسكرية لم تحدث بعدُ، ما تتلاطم به أسرة إسكندر باشا هو الفكرة، مفهوم الأمة، والسلطنة الجريحة.
تنطلق ضربة البداية في سرد أحداث الرواية من عائلة إسحق باشا التركية العريقة، في قصرها المنيف المطل على بحر مرمرة، تعاين انحدار السلطنة العظمى نحو سقوطها وتشهد المعارك التي تجري على أرضها. يقول الناشر في تعريفه بالرواية وشخوصها الرئيسية، إن إسكندر باشا، السفير السابق، المقرب من الباب العالي، يصاب بجلطة تمنعه النطق، بمنزله الصيفي على ضفاف بحر مرمرة، بالمنزل الذي كان منفى ليوسف باشا الجد الكبير، يجتمع أعضاء الأسرة، ليرووا حكايتهم حول الأب الكبير هذه المرة، لأول مرة، وليرووا إلى "المرأة الحجرية" الواقفة بالضيعة، تستمع بدقة للاعترافات. فيختلط الحسي ذو الشهوة القارسة عند صلبها الحجري بالفكري القاسي أيضًا، وتُذرف دموع.
أما نيلوفر ابنة الباشا، فتزوجت من مدرس يوناني، وهربت، ثم فتر بينهما الحب حتى بئست، وأُهملت، تركها الزوج، وقُتل بأعمال شغب طالت اليونانيين بقونية، لكن نيلوفر الوحيدة ما زالت تحب، وتعلق بابن الحلاق، تقيم العلاقة كاملة، رغم الطبقة، تعود بعد تسع سنوات، بعد أن صفح الأب وأراد رؤية الحفيد.
وسلمان الابن الأكبر، المتزوج بمصر، يحكي تعاسته، مع امرأة تسلخ حياته بالعنف، العنف النفسي الكئيب، الذي يحدو زوجة لأن تصبح عدوة، ويصبح الهرب منها ضربة حظ موفقة، مريم التي خانته، ابنة تاجر الماس القبطي في الإسكندرية.
وخليل الجنرال، عضو تركيا الفتاة، المنظمة الجديدة التي تجهز الآن لتطيح بالحكومة، وتهندس إصلاحات مستقبلية تروم إدخالها على نظام الحكم، انضم هو وثلة من الضباط والجنرالات العسكريين، والثورة حتمية مهما كانت العقبات، بوضوح، العسكريون الغاضبون سينقلبون، ستكون ثمة لجنة للاتحاد والترقي، ومؤامرة إسقاط السلطان.
محمد أخو إسكندر الكبير، يحضر لعيادته، بصحبة صديقه الحميم البارون الألماني ذي الثقافة الهيجيلية، معلمهم الذي يتمسك برؤيته عن سقوط الخلافة، تلك العاهرة المخمورة كما يصفها، والذي تُجرى معه المناظرة عادة، في حديقة البيت، في الجلسات والشامبانيا دائرة، يتأملون الأسباب، من زاويته يقهقه، ومن زاويتهم يلومون السلطان الذي تراجع عن إصلاحاته التحديثية، يلومون المفهوم المتبنى كله (الأمة) رغم تعدد الأعراق، ورغم ما ينخر الهوية، يلومون أنفسهم أيضًا، فهم لم يسهموا بشيء تقريبا سوى الاستمتاع بالثراء، والحس.
العجوز بتروشيان الحلاق الوفي الذي رافق إسكندر باشا إلى باريس على الدوام، ما زال يحكي أمجاد الإمبراطورية.
وسليم حبيب نيلوفر، يذهب للمرأة الحجرية هو الآخر ليعترف. الجواري تُستقى منهن المتعة، ثم لا مصير. حسية عثمانية أصيلة، يجليها عشق نيلوفر لسليم ابن الحلاق ثم زواجها منه، والانتقام الدموي من العشاق. الجسد في هذه الملحمة نيلوفر المنفية التي خرجت عواطفها عن السيطرة، والمعترف إليها بكل خبيء امرأةٌ من حجر، والأم أحيانا تسترق السمع وتعرف. حتى بتروشيان يعترف، لا بالحب أو الخيانة، بل بالقتل، بتروشيان قاتل العم الكبير مراد باشا.
والقرن يتأهب لمستقره الأخير، حيث المستقبل لا يبدو واضحًا، رغم أن بدرا يغيب وشمسا جديدة تبزغ، والإمبراطورية تتهاوى، والأجساد كلها ملونة بالندوب.
تأتي هذه الرواية، الثالثة، ضمن خماسية "تاريخ الإسلام" التي خصصها طارق علي لمعالجة ما اعتبره المفاصل الكبرى في تاريخ الإسلام، ما بين البزوغ والأفول، المحطات المفصلية التي شهدت لحظات تحول كبرى في تاريخ الإسلام. مشروع روائي فكري ضخم يختار فصولا ومواقف من تاريخ الإسلام على امتداد أربعة عشر قرنا، ويحاول طارق علي في هذه الخماسية أن يصور الحضارة الإسلامية على نحو يقول عنه إنه سباحة ضد التيار، ومع أن كل رواية من هذه الروايات الخمس تعد عملا مستقلا بذاته توجد ملامح رئيسية أربعة توحّدها، بحسب نقاد، هي "الطرافة" و"الخيال" و"البصيرة" و"متعة النقد"، إلى جانب جهد توثيقي كبير في كتابتها، وقد برع علي في نسج خيوط أقدار شخصياتها، وحبكاتها المعقدة والمتينة، في إنارة ومساءلة حقب مجيدة من تاريخ العالم الإسلامي.
استهل طارق علي الخماسية بروايته ذائعة الصيت "ظلال شجرة الرمان" (ترجمها محمد عبد النبي وراجعها طلعت الشايب وصدرت عام 2012 عن دار الكتب خان بالقاهرة)، ثم بـ «كتاب صلاح الدين» (صدرت ترجمتها أيضا عن الكتب خان في 2014)، ثم «المرأة الحجرية»، و«سلطان من باليرمو»، وأخيرا «ليلة الفراشة الذهبية».
صاحب هذا الصرح الفني والفكري المهم هو البريطاني (باكستاني الأصل) طارق علي، من مواليد لاهور 1943، وهو كاتب وروائي ومخرج سينمائي ومنظر سياسي، من أبرز وجوه اليسار الجديد في بريطانيا، يكتب بشكل رئيسي في مجلات اليسار الجديد منذ الستينيات وحرب فيتنام ومشارك فعال في كل محاكمات حقوق الإنسان، ويتصدر المؤتمرات المناهضة للحروب والعولمة على النموذج الأمريكي والأصوليات الدينية والإمبراطورية وحروب الإبادة في أفغانستان وصربيا والعراق وفلسطين.
له أكثر من 15 كتابا في التاريخ والسياسة والأدب، كلها مثيرة للجدل، من أعماله المنشورة: "باكستان: حكم عسكري أم سلطة شعبية؟"، و"هل تبقى باكستان؟"، و"نهرويون وغانديون: سلالة هندية حاكمة"، و"سنوات حرب الشوارع: سيرة ذاتية للستينيات"، و"الثورة من أعلى: الاتحاد السوفيتي إلى أين"، وله كتاب عن تروتسكي للمبتدئين.
وفي عام 2002 صدر له كتابه الشهير "صدام الأصوليات: الحملات الصليبية والجهاد والحداثة" الذي يعيد فيه قراءة التاريخ الإسلامي منذ العهد الأول إلى أحداث سبتمبر التي يراها صدام أصوليات ليس إلا. وله أيضًا ثلاثية عن سقوط الشيوعية صدر منها "افتداء"، و"الخوف من المرايا"، أثارتا نقاشات مهمة في الأوساط الأدبية وترجمتا إلى عدة لغات، وله مسرحية قصيرة عن العراق وأوبرا عن الخميني، وكتاب عن "بوش.. في برج بابل".
aXA6IDMuMTQ1LjEwNS4xNDkg جزيرة ام اند امز