ناصر الدين الأسد.. مؤرخ الشعر الجاهلي
عام على رحيل مؤرخ الشعر الجاهلي ناصر الدين الأسد أول رئيس للجامعة الأردنية والباحث اللغوي والمترجم وأستاذ الأدب العربي القدير
حينما أُعلن قبل عام عن وفاة الرائد ومؤرخ الأدب واللغوي الأردني ناصر الدين الأسد، لم يكن ذلك إعلانًا فقط عن غياب علم بارز من أعلام الدرس الأدبي واللغوي في الثقافة العربية المعاصرة، إنما كان ذلك أيضًا إعلانًا عن إسدال الستار على جيل كامل من كبار المتخصصين في اللغة العربية والأدب العربي والدراسات اللغوية الأصيلة ومؤرخي الأدب العظام الذين تخرجوا في مدرسة العميد طه حسين، مثل شوقي ضيف، إحسان عباس، ناصر الدين الأسد، شاكر الفحام، يوسف خليف، وحسين نصار (أمد الله في عمره).. منهم من تتلمذوا عليه بشكل مباشر وأعدوا أطروحاتهم العلمية تحت إشرافه وتركوا أعمالًا قيمة لا تنسى (للأسف يتراكم عليها الغبار وتتوه في الزحمة).. ومنهم من خالفه في بعض أو كثير من آرائه وشق طريقه منفردًا لكن بعد أن تشرب منه روح البحث المنهجي ودقته واستيعابه وشموله.
من بين هؤلاء جميعًا ينفرد ناصر الدين الأسد (حلت ذكرى وفاته الأولى في 21 من مايو 2016) بأطروحته العظيمة «مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية» التي كانت ردًّا علميًّا أصيلًا ورفيعًا على الشبهات التي أحاطت بوضعية هذا الشعر، وتاريخيته، وأصالته منذ كتب طه حسين كتابه المثير للجدل «في الشعر الجاهلي» والذي أذاعه على الناس في العام 1927، وأثار حينها ما أثاره ليس لاعتبارات أدبية أو علمية أو تاريخية، وإنما لما رآه البعض حينها مساسًا بالعقيدة الدينية، ومنذ ذلك التاريخ وحتى إعداد ناصر الدين الأسد لأطروحته، صدرت عشرات الكتب التي عنيت في المقام الأول بمحاججة طه حسين حول النقاط التي رأوا أنها تمس العقيدة، وأقل هذه الكتب هو الذي تفرغ لمناقشة الفرض العلمي والرأي التاريخي حول مدى صحة وأصالة الشعر الجاهلي أو ما وصلنا منه على الحقيقة.
في منتصف الخمسينيات (1955) من القرن الماضي، وتحت إشراف الدكتور شوقي ضيف، تقدم ناصر الدين الأسد الطالب الذي تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة، وتتلمذ على يد أعظم أساتذتها، برسالته العلمية للحصول على درجة الدكتوراه بعنوان «مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية».. وكانت رسالة فريدة ومهمة في بابها، صدرت في كتاب عن دار المعارف سنة 1956 (حمل الكتاب رقم 1 في سلسلة "مكتبة الدراسات الأدبية"، وهي واحدة من السلاسل الذهبية الرائعة التي كانت تصدرها دار المعارف في أوج ازدهارها وتوهجها، ونشر فيها روائع الأعمال العلمية والبحثية لأسماء بقامة سهير القلماوي ومحمد كامل حسين وشوقي ضيف وآخرين).
كانت هذه الرسالة، بقيمتها وما حملته من رؤية أصيلة ومنهج منضبط ومادة غزيرة، هي فصل الخطاب الذي أنهى الجدل ووضع حدًّا لكل ما أثير من نقاشات حول نسبة الشعر الجاهلي وأصالته طيلة هذه العقود، نجح ناصر الدين الأسد في هذا الكتاب أن يثبت علميًّا وتاريخيًّا وأدبيًّا صحة وأصالة ما وصلنا من الشعر الجاهلي منسوبًا لأصحابه من كبار شعراء هذا العصر، ولأن هذا الكتاب هو بالفعل أكثر كتبه البحثية ثراءً ومعرفة؛ فإنه وعلى عكس ما يُظن، لم يكن موضوعه الأساس تقويض ما قدمه طه حسين في «في الشعر الجاهلي»، بل أخذ هذا في طريقه ضمنًا وردًا ومناقشة في كتابه، ولم يسع العميد طه حسين آنذاك إلا الإشادة بدراسة تلميذه والتعبير عن الإعجاب البالغ بما وصل إليه التلميذ من إحكام الأدوات والقدرة على البحث والمقارنة بين الروايات والانتهاء إلى نتائج مدعومة بحيثياتها ومعضدة بأدلتها.
بالتأكيد كان «مصادر الشعر الجاهلي» هو السبب الرئيس في بلوغ شهرة ناصر الأسد أوجها، عرف بالكتاب واشتهر به وذاع اسمه في البلدان العربية كافة بسببه، ببساطة قام الأسد بمسح تاريخي غير مسبوق تناول وضع الشعر ونحله عند الأقدمين، ثم آراء المستشرقين، وأخيرًا آراء العرب المحدثين، ولم يأت بهذا اللباب عاريًا، وهنا المنجز الأكثر أهمية، بل جاء به ضمن استقصاء تاريخي لمجتمعات العرب آنذاك، والكتابة في ذلك العصر، وجلاء الالتباس المحيط بكلمة "الأمّيين" التي يحسبها العرب حتى الآن تعني الجاهلين بالقراءة والكتابة، بينما هي تعني الأمّيين دينيًّا لا كتابيًّا، وكتابة الشعر في ذلك العصر، وأدوات الكتابة، ودواوين القبائل والمختارات والشعر الجاهلي في غير الدواوين، استقصاءات عميقة لم يتابعها أحد من بعده.
عن هذه الرسالة وقيمتها وصاحبها الذي كتبها تقول الدكتورة سيزا قاسم، الناقدة الكبيرة وأستاذة الأدب والنقد المرموقة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة: "إن ناصر الدين الأسد علم من أعلام الدرس الأدبي المعاصر، وكتابه هذا المرجع الذي لا يشيخ ويحتفظ برونقه وتألقه على مر السنين، أعود إليه مرارًا وتكرارًا لمجرد الاستمتاع والتعلم وتذوق اللغة العربية في أنقى صورها وتجلياتها، هكذا كانت تكتب رسائل الماجستير والدكتوراه!".
من أبرز أعماله، بالإضافة إلى «مصادر الشعر الجاهلي»، كتاب «القيان والغناء في العصر الجاهلي» وهو في الأصل أطروحته للماجستير التي نالها من جامعة القاهرة (فؤاد الأول آنذاك)، كما اشترك مع المرحوم إحسان عباس في تحقيق كتاب «جوامع السيرة وخمس رسائل أخرى» لابن حزم الظاهري الأندلسي، وكتب أخرى كثيرة.
صداقة عميقة ربطته بالمرحوم محمود شاكر ويحيى حقي، وكان مواظبًا على حضور جلساته ولقاءاته التي كان يعقدها في بيته بمصر الجديدة، وعنهم رويت وقائع وأحداث مثيرة وطريفة، تعرض لبعضها رجاء النقاش في بعض من مقالاته الجميلة.
إضاءة تاريخية
ولد ناصر الدين الأسد في العقبة بالأردن عام 1922 لأب أردني وأم لبنانية، وتلقى تعليمه الجامعي وحصل على درجة الماجستير ثم الدكتوراه بتقدير ممتاز من جامعة القاهرة عام 1955، وحاضر في عدد من الجامعات ومعاهد البحوث في الأردن وليبيا ومصر، وأسس الجامعة الأردنية، ثم عُيِّن رئيساً لها خلال الفترة من عام 1962 - 1968.
وعمل الأسد سفيراً للمملكة الأردنية لدى السعودية بين عامي 1977 و1978، ورأس العديد من المجامع والمجالس مثل المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية "مؤسسة آل البيت"، ومجلس الأمناء في جامعة الإسراء بعمّان، ومجلس أمناء جائزة عبدالمجيد شومان الدولية للقدس. وبقي يشغل رتبة أستاذ الشرف في اللغة العربية في الجامعة الأردنية.
نال ناصر الدين الأسد جوائز عديدة منها: جائزة الدكتور طه حسين لأول الخريجين في قسم اللغة العربية في جامعة فؤاد الأول (جامعةالقاهرة الآن) 1947، وجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي لعام 1982، وجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في حقل الدراسات الأدبية والنقد لعام 1995/1994، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من الأردن 2003.
من أبرز مؤلفاته وترجماته: «الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن»، «الشعر الحديث في فلسطين والأردن» «خليل بيدس ـ رائد القصة الحديثة في فلسطين»، «محمد روحي الخالدي ـ رائد البحث التاريخي في فلسطين»، «جوامع السيرة وخمس رسائل أخرى» لابن حزم (تحقيق بالاشتراك مع الدكتور إحسان عباس)، «تاريخ نجد - تأليف حسين بن غنام»، «ديوان قيس بن الخطيم»، «ديوان شعر الحادرة»، «مصحف الشروق المفسر الميسر، تحرير وتحقيق لمختصر ابن صمادح التجيبي الأندلسي لتفسير الإمام الطبري»، «يقظة العرب»، تأليف جورج أنطونيوس (ترجمة من الإنجليزية بالاشتراك مع الدكتور إحسان عباس)، «ليبيا الحديثة»، تأليف مجيد خدوري، ترجمة من الإنجليزية: الدكتور نقولا زيادة (مراجعة الترجمة)، «تصورات إسلامية في التعليم الجامعي والبحث العلمي»، «نحن والآخر، صراع وحوار»، «نحن والعصر، مفاهيم ومصطلحات إسلامية»، «نشأة الشعر الجاهلي وتطوره (دراسة في المنهج: محاولة أولى)»، «الحياة الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن حتى سنة 1950»..