في هذه المسرحية التي سوف يحوّلها المخرج السينمائي راؤول وولش إلى فيلم نال بدوره نجاحًا كبيرًا
لم تكن مسرحيات «السيرة» أمرًا معهودًا على الخشبات الأوروبية والأمريكية في ذلك الحين، صحيح أن بعض الكتّاب الأكثر إقدامًا كانوا حاولوا ذلك النوع من الكتابة المسرحية الصعبة، والتي تفترض مرور سنوات طويلة على المسرح وتغيرًا مدهشًا بالتالي في سمات الشخصيات ونفسياتها - يوجين أونيل على سبيل المثال في «رحلة النهار الطويلة إلى الليل»، وبول كلوديل في «كتاب كريستوف كولومبوس»، غير أن الرأي السائد كان يؤكد على صعوبة النوع إن لم يكن على استحالته، وبالتالي يتعين تجنبه قدر الإمكان، لكنّ الكاتب الأميركي روبرت شيروود لم يؤمن بهذا، بل خاض التجربة غير مرة، أحيانًا عبر نقله إلى الخشبة حقبة ما من حياة شخصية تاريخية أو غير تاريخية معينة (كما الآرشيدوق رودولف ماكسيمليان وعشيقته إيلينا زوجة عالم النفس كروغ في «موعد في فيينا»)، وأحيانًا عبر تصوّره حدثًا وطنيًّا في حياة عالم فنلندي (الدكتور صاحب جائزة نوبل، كارلو فالكونن في «سوف يحلّ الليل» المناوئة للاحتلال السوفياتي لفنلندا). غير أن خوض شيروود التجربة وصل إلى ذروته في مسرحيته الأشهر «آبراهام لنكولن في آلينويز» (1938) التي عالج فيها بنجاح نقدي وجماهيري كبير، ثلاثة عقود من حياة الرئيس الأمريكي آبراهام لنكولن، هي بالتحديد العقود التي سبقت - ومهّدت إلى - وصوله إلى الرئاسة، وبالتالي حوّلته إلى ذلك الرجل الذي أضحى رئيسًا استثنائيًّا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
في هذه المسرحية التي سوف يحوّلها المخرج السينمائي راؤول وولش إلى فيلم نال بدوره نجاحًا كبيرًا، جدد شيروود ذلك الولع الذي دائمًا ما عبّر عنه المفكرون والمبدعون الأمريكيون، بشخصية ذلك الرئيس التقدّمي الذي حرر العبيد ليموت غدرًا كثمن دفعه لنضاله في سبيل العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر، علمًا بأن شيروود فعل هنا ما فعله مواطنه المخرج السينمائي أيضًا، جون فورد في الوقت نفسه تقريبًا، وربما محاكاة لشيروود، في فيلمه «مستر لنكولن شابًا»، حيث غاص الاثنان من ناحية مبدئية، في تلك الظروف والسنوات التي جعلت ذلك المحامي الخجول الشاب، يتحول بالتدريج ليصبح بطلًا أمريكيًّا حقيقيًّا، وربما أشهر وأعظم رئيس في تاريخ بلاده.
تعالج هذه المسرحية إذًا، السنوات ما قبل الرئاسية في حياة لنكولن بين سن العشرين والخمسين، أي حتى سنوات رئاسته الأولى، ولعل أول ما يمكن قوله هنا أننا أمام مسرحية أخلاقية تكاد تكون وعظية، لكننا أيضًا أمام نص عن الوحدة في القمة، فإذا كانت المسرحية تركّز على نزاهة لنكولن الشاب وتواضعه، فإنه ستركز لاحقًا على زواجه وتناقضات حياته الزوجية حين ينتهي به الأمر وحيدًا في البيت الأبيض، فالمشكلة هنا تكمن في التناقض بين أخلاقيات لنكولن وسلوك الفتاة الثرية الطموحة التي أحبها وتزوجها، ماري تود. فإن كان هو قد وصل إلى البيت الأبيض ليحقق ما يريده للشعب، ها هي تصل لتحقق طموحاتها الخاصة وهي طموحات ذاتية وتسلطية... وبالتالي ينتج من هذا مشاهد أخيرة نراه فيها سيدًا محبوبًا للبلاد، ولكن رجلًا وحيدًا بائسًا.
في هذه المسرحية الطموحة، عرف شيروود على أية حال، كيف يصوّر لنا الوحدة المطلقة لإنسان قبل أن يصور مسار رئيس، والذين يعرفون شيئًا عن حياة روبرت شيروود ومساره، لن يفوتهم ملاحظة أن هذا الأخير يبدو هنا وكأنه يصوّر حياته الخاصة ووحدته من خلال تصويره حياة لنكولن، ففي البلد الذي تظهر فيه الفردية أبرز من أي شيء آخر، يحدث أحيانًا أن تكون أعمال أمرئ أهم وأبرز من شخصيته بكثير، ومن هذه الأحيان ما يتعلق بشيروود، الذي قد لا يتذكره اليوم سوى قلة من الناس. ومع هذا لو تذكرنا أعماله لفوجئنا بأنها كانت من شأنها أن تجعل منه واحدًا من أشهر الأسماء، في عالم الكتابة المسرحية على الأقل، إلى جانب يوجين اونيل، ثورنتون وايلدر وتنيسي ويليامز، معاصريه، فإذا تذكرنا هنا أن عدد الجوائز الأدبية التي نالها شيروود عن العديد من أعماله، يفوق ما ناله أي كاتب آخر من مجايليه، يتحول العجب إلى دهشة. فشيروود نال أربع مرات تلك الجائزة التي يتطلع إلى نيلها كافة الكتّاب الأمريكيون من دون استثناء، وهو لإضافة إلى ذلك نال جائزة «الأوسكار» لأفضل سيناريو، عن السيناريو الذي وضعه لواحد من أهم الأفلام الأمريكية: «أجمل سنوات حياتنا». ومع هذا لو سألت أمريكيًّا اليوم عما يعرفه عن روبرت شيروود لنظر إليك مندهشًا وقال، إنه لا يعرف شيئًا!
كان شيروود طاقة استثنائية، ما جعله يشعر دائمًا بأنه ليس أبدًا في موضعه الطبيعي، ومن هنا كان تمرده الدائم، وقدرته على ترك الأمور غير مكتملة، لا سيما منها ما يتعلق بالدراسة، فهو في شبابه الباكر حين بدأ يتلقى دراسة متميزة في جامعة هارفارد، شعر ذات يوم بأنه يمكنه أن يوقف ذلك كله ففعل. فعل، ولكن ليتحول إلى صحفي ناجح، ومن ثم إلى كاتب مسرحي وغير مسرحي، وكذلك إلى ناقد أدبي وسينمائي، غير أنه كان سرعان ما يهجر ذلك كله حين يشعر بالسأم، هو الذي كان نادرًا ما يأخذ الأمور في شكل جدي، إلى درجة يروى عنه معها، إنه حين عمل في بطانة الرئيس روزفلت في مرحلة متأخرة من حياته ككاتب للخطابات الرئاسية، كان يتعمد في الصيغة الأولى لكل خطاب يكتبه أن يمرر عبارات عبثية ساخرة في كل شيء تضحك الرئيس ثم تُمحى بعد ذلك بالطبع، وفي مرة حين عين مساعدًا لوزير الحربية، كتب نصًا طويلًا حول ضرورة السلام ووقف الحروب!
ولد شيروود عام 1896 في مدينة نيوروشيل (نيويورك). وهو تلقى دراسته في نيويورك نفسها، وكان لا يزال يافعًا حين خاض الحرب العالمية الأولى، ضمن القوات الكندية في الجبهة الفرنسية، وهذا ما قاده لاحقًا؛ لأن يقف ضد الحروب من جهة، ولأن يعتبر نفسه معنيًا بأوروبا من جهة ثانية، ومن هنا ما سنلاحظه من أن القسم الأكبر من مسرحياته الكبرى تستمد مواضيعها من القارة الأوروبية، محاولة بالطبع أن تسقطها على الشؤون الأمريكية، ومن ذلك مثلًا مسرحيته «الطريق إلى روما» التي يتحدث فيها في شكل عنيف وساخر عن غزو هنيبعل لروما، وكان من الواضح أن شيروود يعني بروما الولايات المتحدة الأميركية.
اشتغل شيروود بعد عودته من الحرب محررًا لمجلة «لايف»، لكنه سرعان ما أقيل من تلك الوظيفة بسبب موقفه المعادي لقرارات الدولة بمنع الخمور، لكن تلك الإقالة لم تزعجه؛ لأنها أتت في العام نفسه الذي كانت مسرحيته «الطريق إلى روما» عرضت وحققت قدرًا كبيرًا من النجاح (1927) وفيها كشف شيروود عن موقف سلمي معاد للحروب، هو نفس الموقف الذي سيعبر عنه في مسرحيته التالية «جسر واترلو» (1929). غير أنه سرعان ما سئم تلك المواضيع فراح في مسرحياته التالية يرسم صورة لأناس يستعيدون بسبب ظروف موضوعية قيم الحياة والاهتمام بها (كما في «الغابة المجمدة» و«لذة العبيط») وهذه الأخيرة نال عليها جائزة بوليتزر، نفس الجائزة التي سيحوزها مرتين متتاليتين بعد ذلك عن مسرحيتيه «ابراهام لنكولن في الينويز» (1938) و«سوف يكون هناك ليل» (1940).
غير أن ذلك كان آخر عهد شيروود مع المواقف السلمية؛ إذ أنه خلال الحرب العالمية الثانية، وإذ أضحى مساعدًا رئيسيًّا للرئيس روزفلت، راح يدعو إلى النضال ضد النازية بكل قوة، وهو عبر عن ذلك خاصة في الخطابات التي راح يكتبها للرئيس روزفلت، والتي اتسمت في حينه بسمة تقدمية واضحة، إضافة إلى أنها ساهمت في تقريب وجهات النظر بين موسكو وواشنطن، غير أن علاقة شيروود بفرانكلين روزفلت لم تنته مع كتابة الخطابات ورحيل الرئيس الديموقراطي، بل تواصلت حيث كتب شيروود أفضل سيرة وضعت لحياة روزفلت بعنوان «روزفلت وهوبكنز» وهي السيرة التي نال عليها شيروود جائزة بوليتزر من جديد، غير أن تلك كانت آخر أعمال شيروود الكبيرة، إذ بعدها راح إنتاجه يتضاءل وراحت أهميته تقل حتى رحيله عام 1955.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة