التصريح بنصه دليل على افتقار الدولة لأية استراتيجية شبه متماسكة تواجه الإرهاب، وهذا كلام في السياسة قبل الأمن
لا يجدى تلخيص الأزمة الأمنية في انتهاكات بعض الضباط للحق في الحياة، ولا إحالتهم إلى جهات التحقيق، ولا تبرؤ وزير الداخلية من أن يكون التعذيب ممنهجًا.
التبرؤ إيجابي كأنه عهد بوقف أية انتهاكات والتزام بألا يفلت أحد من العقاب، غير أنه يقصر بذاته عن أن يكون حلًّا أو شبه حل لظاهرة تفشت حتى تكاد تنزع الغطاء الشعبي عن الأمن كله في لحظة حرب ضارية مع الإرهاب.
الذين ينتهكون الكرامة الإنسانية لمواطنيهم يخونون في الوقت نفسه الدماء التي بذلها مئات الضباط والجنود تثبيتًا للدولة من أي سقوط محتمل.
الوزير يتحدث عن أن هناك محاولات تتعمد إسقاط الشرطة، وهذا كلام صحيح في المجمل، غير أنه يستدعى التساؤل عن مدى مسئولية الشرطة نفسها في توفير الأجواء لمثل هذا السقوط.
الاستهتار بالمواطنين العاديين أول علامات السقوط كأن أحدًا لم يتعلم شيئًا من تجربة «يناير».
بعد ثورتين يصعب التنكيل بالمواطنين دون عواقب وخيمة.
المظاهرات والاحتجاجات التى خرجت في توقيت واحد بأكثر من محافظة تحتج على القتل خارج القانون بأقسام الشرطة ليست كل التداعيات المتوقعة.
أخطر ما هو متوقع ضخ دماء جديدة في شرايين الإرهاب، كأن الضابط الذى ينتهك يحشو رصاصًا جديدًا في بنادق الإرهاب التي تستهدف ضباطًا آخرين.
عندما يقول وزير الداخلية اللواء «مجدى عبدالغفار» بما يشبه الاعتراف، إن الدولة تواجه حاليًا مشكلة انضمام مئات الشباب إلى التنظيمات الإرهابية، فإن الأزمة أكبر مما نعتقد ومواطن الخلل تستدعى حسمًا كاملًا وفق قواعد معلنة.
التصريح بنصه دليل على افتقار الدولة لأية استراتيجية شبه متماسكة تواجه الإرهاب.
وهذا كلام في السياسة قبل الأمن.
غياب السياسة يفضى إلى تغول الأمن خارج أدواره الدستورية والقانونية، حيث الفراغ السياسي فإنه يتقدم إلى غير ميادينه، وحيث لا توجد قواعد فهو القاعدة، هذا وجه رئيسي للأزمة لا يمكن إنكاره.
بمعنى صريح لا يمكن بناء أية استراتيجية كفؤة لمواجهة الإرهاب بلا أفق سياسي يمتد إلى إصلاح مؤسسات الدولة التي أصابها العطب وجرفت على نحو نال من احترامها.
عندما لا يكون هناك مسار سياسي واضح، فإننا داخلون لا محالة إلى أزمات جديدة تضرب في بنية دولة تتعافى بالكاد ومن بينها أجهزتها الأمنية.
تعريف دور الأمن مسألة ضرورية في أية نظرة ممكنة لإصلاح منظومته، دور الأمن أن يحفظ القانون لا أن يعتدي، أن يخدم شعبه لا أن يفتري.
الاستهتار بالمواطن العادي غطرسة قوة لا هيبة دور، في أي سقوط محتمل للأمن سقوط للدولة.
السؤال عن دور الأمن هو نفسه سؤال دولة القانون، يصعب الادعاء بأن في مصر دولة قانون.
أحد وجوه الأزمة إغفال أية صيغة توفق بين الأمن والحرية أو بين ضرورات الحرب مع الإرهاب وصون الحريات العامة.
في غياب أية صيغة حديثة تمدد الأمن إلى أمور لا شأن له بها وفق أية قواعد دستورية وقانونية كإنشاء أحزاب، والتدخل في تشكيل قوائم انتخابية والترتيب لائتلاف الأغلبية في البرلمان الجديد.
على ذات النهج سحب تدخله من الجامعات استقلالها ومن العمل الطلابي السلمى حقه الأصيل.
بصورة أو أخرى الانتهاكات المتواترة تعبير خشن عن هذا التغول.
أسوأ استنتاج ممكن أن يعتقد بعض الضباط أنهم سلطة فوق النظام والقانون والشعب، وضع الأمور في نصابها أول خطوة جدية لأى إصلاح ممكن في الجهاز الأمني.
تعريف دور الأمن قبل ممارسة صلاحياته، احترامه واجب لأداء وظيفته، غير أنه لابد أن يعامل شعبه وفق القواعد القانونية.
غياب القواعد أحد أسباب السقوط في يناير (٢٠١١).
لم يكن يتردد وزير الداخلية الأسبق «حبيب العادلي» في القول «إن أي ضابط يسقط تقطع رقبته».
بمعنى نزع أية حماية عمن يثبت علنًا أمام الصحافة ضلوعه في جرائم يحاسب عليها القانون.
رغم إحالة عدد من الضباط لجهات التحقيق لم يحدث أدنى تحسن في علاقة الأمن بمواطنيه، ولا انخفضت الانتهاكات في أقسام الشرطة، ولا منعت اختراقات الأحزاب السياسية والتدخلات في المشروعات الاقتصادية ولا أي شيء آخر خارج القانون.
منذ عام (٢٠٠٥) تحول اللواء «العادلي» إلى وزير داخلية «التوريث».
في هذا التحول أفقد الجهاز الأمني طابعه الوطني العام، وهذا سبب جوهري آخر في السقوط الذى جرى.
بعد «يناير» تبدت الحاجة إلى إعادة بناء الجهاز الأمني من جديد.
لا بلد في العالم يستغنى عن أمنه، الجنائي قبل السياسي، وكلاهما ضروري.
غير أن الذى يفرق بين دولة وأخرى وجود الحدود القانونية الفاصلة بين ما هو ضروري وما هو متغول.
في ذلك الوقت العصيب طرحت أفكار كثيرة من داخل وزارة الداخلية وخارجها على السواء لإعادة هيكلتها من جديد.
غير أن تعبير الهيكلة أسئ استخدامه من جماعة الإخوان المسلمين إلى حد أنه بات مرادفًا لـ«أخونة الشرطة» وتصفية الحسابات القديمة باسم مشروع «التمكين».
وقد جرت اختراقات لمناطق أمنية حساسة دفع ثمنها من اغتيالات ممنهجة لبعض ضباط الشرطة في أعقاب (٣٠) يونيو.
في اللحظات العصيبة تمردت الأغلبية الساحقة من الجهاز الأمني على سلطة الجماعة وتعليماتها بقمع التظاهرات السلمية التي قادتها القوى المدنية وشبابها، غير أن الروح الجديدة أخمدت سريعًا وأفلتت فرصة لا تعوض لمصالحة تاريخية بين الشرطة وشعبها.
من «التوريث» إلى «التمكين» تهاوت تصورات ورهانات وسقط رجال غير أن أحدًا لم يستوعب التجربة المريرة، ولا أقدم على إصلاح الجهاز الأمني لتتسق مهامه مع ثورتين دعتا إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة تصون كرامة مواطنيها.
في تقويض الرهانات الكبرى مشروع سقوط جديد لا تحتمله مصر المنهكة.
القضية ليست في أن بعض الضباط انفلتوا عن أي قيد قانوني أو أخلاقي بقدر ما هي أن تكون وجهة الحركة واضحة وسمعة الأمن مستحقة وحقوق الإنسان مصانة.
الأزمة الأمنية الوجه الآخر للأزمة السياسية في بلد قام بثورتين ولم يحقق إنجازًا حقيقيًّا في طبيعة الدولة.
هذه هي الحقيقة بلا تزيد.
الفرصة ما زالت متاحة لإصلاح كل ما تهدم بشرط احترام الدستور لا الاستخفاف به.
بكلام آخر الإصلاح الأمني ضروري، لكنه لابد أن يدخل في سياق سياسي أشمل يعلى شأن دولة القانون في هذا البلد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة