لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حدود لبنان وسورية والعراق وفلسطين والأردن بصيغتها الحاليّة لم تُرسَم ضمن اتّفاقيّة سايكس بيكو
انقضت مئة سنة منذ توقيع اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة في العام 1916، وقد عدتُ أخيراً من مؤتمر دوليّ حول الموضوع، نظّمه «بيت المستقبل» في لبنان برعاية الرئيس السابق أمين الجميّل، وجمع مفكّرين وخبراء من لبنان وسورية والعراق، والأردن وفلسطين وفرنسا وبريطانيا والولايات المتّحدة وروسيا. وفي سياقه، راجع المشاركون تاريخ التقسيم الاستعماري، وتمعّنوا في مسيرة الدول التي انبثقت من تلك المرحلة، وتشاوروا حول المسائل التي يمكن أن تواجه دول المنطقة وحدودها في السنوات المقبلة.
أوّلاً: لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حدود لبنان وسورية والعراق وفلسطين والأردن بصيغتها الحاليّة لم تُرسَم ضمن اتّفاقيّة سايكس بيكو، بل كانت حصيلة معقّدة لسلسة من الاتّفاقات والمؤتمرات والمواثيق والقرارات، بما يشمل وعد بلفور في العام 1917، ومحادثات سلام باريس في العام 1919، ومؤتمر سان ريمو ومعاهدة سيفر في العام 1920، ومعاهدة لوزان في العام 1923، وقرارات عصبة الأمم التي أرست الانتدابين الفرنسي والبريطاني، وصولاً إلى الاتفاقية الفرنسيّة التي سمحت لتركيا بضمّ لواء الاسكندرون في العام 1938. وفي الواقع، لم يتصوّر التصميم الفرنسي لمنطقة الانتداب ظهور دولتي لبنان وسورية كما أصبحتا في ما بعد، إنّما ستّ دول هي دولة لبنان الكبير، ودولة جبل الدروز، ودولة دمشق، ودولة حلب، ودولة العلويين، ودولة الاسكندرون. أمّا ما يُحال إليه اليوم على أنه «حدود سايكس بيكو»، فهو ملخّص لعملية الرسم وإعادة الرسم الطويلة للحدود الإقليميّة التي أقدمت عليها القوّات الاستعماريّة.
إلى أي مدى شكّلت هذه الحدود المفروضة من قوى الاستعمار السبب الرئيس لمشكلات المشرق في العقود التالية، وحتّى أيّامنا هذه؟ بالنسبة إلى لبنان الكبير، شكّلت المناطق والمجموعات السكنية الجديدة التي أضيفت إلى جبل لبنان التاريخي ميزةً وتحدّياً على حدّ سواء. فمن جهة، أضيفت إليه مناطق ساحليّة وسهول داخليّة سمحت بإنشاء دولة ذات قدرة أكبر على الاستمرار اقتصادياً والازدهار في نهاية المطاف، ومن جهة أخرى، ولّدت الحدود الجديدة تناقضاً بين السلطة السياسية والواقع الديموغرافي المتغير، مما أدى مع الوقت إلى تشنّج في النظام السياسي وإلى انهيار النظام ونشوب حرب أهليّة. بَيد أنّ التعدّدية في المجتمع سمحت للبنان في النهاية بتطوير نظام سياسي يضم كل الأطراف، ومجتمع منفتح ومتنوّع.
أمّا في سورية والعراق، فتشمل القراءة التاريخية للأحداث تحدّيات أكبر. ففي حين نعم لبنان بستّين عاماً من الاستقلال الذاتي، مع تشارك في السلطة واعتماد سياسة انتخابيّة في عهد المتصرّفيّة بين العام 1861 حتى الحرب العالمية الأولى، ناهيك عن بضعة قرون من الاستقلاليّة عن الحكم العثماني المباشر في عهد الأمراء الشهابيين والمعنيين، مرّت مدن وأرياف سورية والعراق بمعاناة كبيرة بعد أن فرض عليها الأتراك حكماً مباشراً منذ القرنين السادس والسابع عشر. وبالتالي، فإن أي انتقال من الحكم التركي المباشر إلى أشكال جديدة من الحكم وضمن أي حدود جديدة كانت سيواجه تحديات عميقة. ما هو التوازن السياسي بين المدن الرئيسة الخمس: دمشق، حلب، الموصل، بغداد والبصرة وأين تقع العاصمة «الطبيعية»؟ كيف تنظم وتوزع السلطة في هذا الفضاء السياسي المستجد؟ وهل كان سيتم إدراج الأقليات الكردية والعلوية والمسيحية والدرزية في صيغة الحكم هذه؟ وهل كانت مملكة عربية يحكمها الملك فيصل القادم من الحجاز لتتمكن من حكم سورية وإدارتها، وأن تضمّ في مرحلة لاحقة مدن ومناطق العراق أيضاً؟ ستبقى هذه الأسئلة قائمة بنظر المؤرخين. لكنّ التجربة تشير إلى أنّ أيّ طرف كان ومن أجل تحمّل تحدّيات الحكم في مرحلة ما بعد الانسحاب التركي كان سيواجه تحديات كبيرة في إرساء الاستقرار السياسي وبناء الوحدة الوطنية ضمن إطار التنوع.
لعلّ الملفت هو أنّ الحدود العشوائية التي أرسيت في مرحلة الاستعمار صمدت خلال الفترة التي صُمَّمت من أجلها، بل ولّدت هويّات وروابط سياسيّة دامت بعد زوال الاستعمار ولا تزال نافذة حتّى يومنا هذا، ومن المتوقع أن تحدّد مسار هذه المجتمعات على امتداد القرن الحادي والعشرين. على سبيل المثال، مع أنّ غالبيّة السكّان الذين ألحقوا بجبل لبنان عند إنشاء لبنان الكبير في العام 1920 رفضوا هذه الدولة الجديدة وأرادوا أن يشكّلوا جزءاً من الدولة السوريّة، وعلى رغم اقتتال اللبنانيين في ما بينهم على السلطة والسياسة وحتّى في سبيل الانفصال خلال الحرب الأهلية المطوّلة التي عاشوها، ظهرت هوية لبنانية قوية، وتراجعت الأفكار المناشدة بالانقسام والانفصال.
وفي شكل موازٍ، رفض السوريّون الحدود الجديدة التي فُرضَت عليهم. إلا أنهم مع الوقت طوّروا حسّاً قويّاً بالهويّة السورية، وحتّى اليوم، ووسط الحرب الأهليّة العنيفة التي يشهدها هذا البلد – وهي أسوأ حتّى من التجربة اللبنانيّة - ومع أنّ الأكراد يطالبون باستقلال ذاتي فدرالي، أو حتّى باستقلال كامل في يوم من الأيام، شأنهم شأن إخوانهم في العراق، ترفض غالبيّة السوريّين أيّ تقسيم لسورية، وأي تغيير لحدود البلاد. وفي العراق أيضاً، وفي حين يتحدّث الأكراد عن الاستقلال، لا تزال المكونات العربية – الشيعية والسنية - تصرّ على مستقبل موحّد للعراقيّين، على رغم الخلافات المريرة وأعمال العنف. ولعلّ الأردن يشكّل أكبر مفاجأة، كونه ظهر كنزوة استعماريّة، وقد بات اليوم يتباهى بهويته الوطنية القوية ويُظهر تعلّقه بوحدة الدولة وسيادتها ضمن الحدود الموروثة.
صدرت مخاوف كثيرة من عودة التدخّل الاستعماري في المنطقة، لا سيّما منذ اجتياح الأميركيّين العراق في العام 2003، وكلام كوندوليزا رايس عن «ولادة الشرق الأوسط الجديد»، وعودة روسيا إلى سورية في العام 2015، وتوسيع نطاق التدخل الإيراني والتركي في المنطقة العربية. وفي سياق المؤتمر المنعقد أخيراً، قام عدد من المشاركين بعرض خرائط مرسومة من قبل كتاب وباحثين في الغرب، تستعرض طرقاً افتراضية لرسم حدود جديدة، وليس فقط في العراق وسورية، بل أيضاً في دول أخرى في المنطقة أيضاً. وتحدّث نائب الرئيس الأميركي جو بايدن أكثر من مرّة عن فكرة تقسيم العراق. لكنّ الواقع لا يزال يفيد بأنّه ضمن النظام العالمي القائم اليوم، لا بدّ لأيّ محاولة تغيير للحدود أن تحظى بموافقة مجلس الأمن، علماً أنّ الدول الدائمة العضوية في المجلس لا تُظهر أي استعداد للموافقة الرسمية على حدود جديدة في الشرق الاوسط. إذ لا تؤيد أي من حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تقسيم العراق أو سورية أو اليمن أو ليبيا. نعم إنها تتعاطف مع الاستقلال الذاتي الكردي ضمن التركيبة الفدرالية للعراق، ولا تعترض على الاستقلال الذاتي الكردي ضمن سورية فدرالية مستقبلية، في حال وافق السوريون على ذلك عبر المفاوضات، إلاّ أنّها لا تدعم رسم أيّ حدود وطنية جديدة أو منحها طابعاً شرعيّاً، علماً أنّ روسيا والصين، من جهتهما، تبديان اعتراضاً شديداً على تغيير أيّ نظام، وعلى تعديل حدود أي دولة، وهو موضوع غير قابل للنقاش معهما. ولا يتمتّع «إلغاء» «داعش» الموقت لحدود سايكس بيكو بأي قيمة قانونية دولياً، ولا يكتسب أي أهمية على الأمد الطويل.
إن أزمة دول المشرق ليست أزمة حدود، بل هي أزمة أنظمة سياسية. وسيتوجب على العراق وسورية، كما توجب على لبنان قبلهما، إيجاد طريقة لتخطي التحدّيات المرافقة لتطوير أنظمة سياسية مستقرة وشاملة وفعّالة. وقد تُوفّر التجربة اللبنانية بعض الدروس – بالمعنيين الإيجابي والسلبي - على صعيد التشارك في السلطة وتعزيز التعايش والمجتمع المنفتح على التنوع، من دون الوقوع في كمائن الانقسام الطائفي الدائم، والفساد السياسي، والحكم غير الفعال.
في مطلق الأحوال، ما من اتفاقية سايكس بيكو جديدة في الأفق، وسيكون علينا بالتالي شقّ طريقنا الى المستقبل وسط عشوائية الحدود التي ورثناها من الماضي.
*- نقلاً عن جريدة "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة