إن مرحلة التحول الأساسي في العلاقة بين الدولة والمدرسة بدأت مع تأسيس المدرسة الجمهورية في فرنسا
ترتبط المدرسة الوطنية بالدولة الحديثة بشكل لا يحتاج إلى التأكيد أو البرهنة عليه، من منطلق أن ميلاد الدول القومية في أوروبا تزامن مع تطور الفكر التربوي المتأثر بفكر الأنوار الذي أكد بشكل لافت ضرورة توفير تعليم لائق لأفراد المجتمع من أجل المساهمة في خلق ثقافة المواطنة لدى الأفراد، وتم الانتقال بناءً على ذلك من الأساليب التقليدية للتربية والتعليم إلى أساليب جديدة ترفض الوصاية على الأفكار وتسعى إلى تمكين أكبر عدد من الأفراد من الحصول على مؤهلات تضمن لهم المساواة في المشاركة السياسية وفي تسيير الشأن العام.
ويمكن القول إن مرحلة التحول الأساسي في العلاقة بين الدولة والمدرسة بدأت مع تأسيس المدرسة الجمهورية في فرنسا اعتماداً على الاجتهادات التي قدمها «جول فيري»، والتي تزامنت مع تطور كبير في التصورات السياسية المتعلقة بالتربية والتعليم في كل دول أوروبا والولايات المتحدة. وقد ركز «فيري» في السياق نفسه، على ما أسماه الخدمة العمومية الخاصة بالتعليم في المرحلة الابتدائية، وهي خدمة أرادها أن تكون مجانية وإلزامية وذات طابع مدني تضمن الدراسة والتعليم لكل الأطفال حتى سن 13، وحاول بذلك أن يجسِد قسماً أساسياً من مبادئ الحداثة التي دافعت عنها فلسفة الأنوار، والمتمثلة بشكل أساسي في تعليم الشعب، وبالتالي فإن الهدف الأساسي من وراء تأسيس المدرسة الوطنية، تمثل في إقامة مؤسسات تربوية محترفة ذات طابع مدني وديمقراطي، ومستقلة عن رقابة المؤسسات الدينية، من أجل المساهمة في تكوين مواطن قادر على الدفاع عن الهوية الجديدة للدول القومية الناشئة.
كان واضحا إذاً، أن المدرسة الوطنية الجديدة جاءت كحتمية تاريخية من أجل الاستجابة لمتطلبات الدولة الوطنية في منتصف القرن التاسع عشر، وعملت بشكل لا لبس فيه على فصل مجال القناعات المتغيِرة عن مجال المعارف التي تتصف بالعمومية وتتجاوز الاختلافات المتعلقة بالأديان والطوائف والعرقيات؛ ومن ثمة فقد حرصت المدارس الوطنية الجديدة على بناء منظومة تربوية وطنية متمركزة حول مفاهيم الحق والواجب والمواطنة، لتكون بذلك مدرسة الجمهورية أو الدولة الوطنية، وليس مدرسة القبيلة أو الطائفة أو المذهب الديني للأفراد.
ومن نافلة القول أن نشير في هذا المقام، أن الأزمة الراهنة للدولة الوطنية، هي أزمة مدرسة وطنية في اللحظة نفسها، وعليه فإنه ومثلما كانت لحظة الميلاد والنشأة متزامنة، فإن لحظة التحديات والتهديدات متزامنة ومتشابهة إلى أبعد الحدود، حتى إنه يمكن القول إن نهاية الدولة الوطنية ستكون نهاية للمدرسة الوطنية أو المدرسة الجمهورية في اللحظة نفسها. حيث نلاحظ في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة، عودة قوية لنموذج مدارس القرون الوسطى التي لا علاقة لها بقيم المواطنة، والتي باتت تهدد بشكل كبير كيان المدرسة الوطنية الحديثة. ويحدث ذلك بكل متزامن مع التهديد الذي باتت تمارسه العولمة والمشاريع الإمبراطورية لبعض الدول، على نموذج الدولة الوطنية الذي رسخته المدرسة الجديدة في القرن التاسع عشر.
وعليه فإن العالم يتجه الآن بخطى كبيرة نحو التراجع عن مدرسة التفكير والإبداع تاركاً بذلك مساحات فراغ كبيرة لصالح مدرسة الطاعة والانقياد، في لحظة زمنية فارقة بدأ يتراجع فيها صوت المعلم والأستاذ لصالح زعيم الطائفة أو القبيلة، وبدأت فيها مدارس الدولة الوطنية، ذات السيادة على كامل ترابها، في التراجع لصالح مدارس الطائفة التي لا تعترف بحكم وسلطان الدول القومية.
ويمكننا الإشارة في هذه العجالة، إلى أن المدرسة الوطنية التي تعتمد على تقديم خدمة عمومية ومجانية للمواطنين، أضحت مهددة من قبل المدارس الخاصة التي تنتشر كانتشار النار في الهشيم في مناطق واسعة من العالم، وتكمن خطورتها في كونها تعتمد على التعليم في بعده التلقيني المحض، بعيداً عن معايير المواطنة وعن فضائل القيم المشتركة للمجتمع والدولة. وفضلاً عن ذلك فإن المدرسة الجمهورية كما يؤكد ذلك المفكر الفرنسي «جون فرانسوا ما تيي»، لم تعد تمثل ذلك الحصن الذي كان يحمي الأطفال، في مراحل سابقة، من أخطار الانحرافات المنتشرة في المجتمع، بل إنها أصبحت في أحيان كثيرة مصدراً لنشر تلك الانحرافات ما بين الأطفال، نتيجة لعجز المدرسة عن تبني قيم قادرة على مجابهة تلك الانحرافات.
ونستطيع أن نخلص تأسيساً على ما سبق، إلى أن المخاطر التي تهدد المدرسة العمومية ترتبط بشكل وثيق بالتحديات والأخطار التي تواجه الدول الوطنية في عصر العولمة، الأمر الذي يفرض على الدول القيام بإعادة إصلاح مدارسها ومنظوماتها التربوية إذا أرادت أن تحافظ مستقبلاً على كياناتها الوطنية. ولا مندوحة من الاعتراف بأن القوى المعادية للدولة الوطنية باتت مقتنعة أكثر من أي وقت مضى، أن ضرب المدرسة هو تصفية ممنهجة لكل القواعد والأسس التي تعتمد عليها الدولة الوطنية في بسط سيادتها على أراضيها وحدودها الإقليمية، ومن ثمة فإن الدول التي تعجز عن المحافظة على مدارسها الوطنية وعن تطوير محتوى برامجها وكفاءات كوادرها، ستكون عاجزة على مواجهة شياطين التقسيم والفرقة الطائفية المختفية داخل تفاصيل الأزمات التي تعايشها المدارس العمومية في مختلف الدول، من منطلق أن الفشل التعليمي يمثل أولى مظاهر الفشل الدولوي.
المقال نقلاً عن صحيفة "الخليج" الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة