الحقيقة أن العنصرية هى إحدى متلازمات الحياة الفكرية فى شمال العالم فلقد كان تاريخها الطويل ومازال ضرورة لاستمرار الحروب
كان اكتشاف الضفيرة الوراثية المحددة لملامح الإنسان، وصفاته واحتمالات مرضه وقدراته حدثا علميا عظيما، فالضفيرة المقدسة المعروفة باسما الـ «دى إن إيه» DNA عبر غياب الزمن حاملة معها للإنسان الفرد قدرا والغازا كان السعى للاكتشاف طويلا ولكن اسمين تربعا على قمته هما (واتسون)، و(كريج) اللذان تشاركا فى الحصول على جائزة نوبل وما تمنحه من منصة تطل على العالم فتحيط بهما طقوس القداسة، والنبل. إلا أن جدلا عظيما أحاط باحدهما منذ عدد من السنوات وهو (واتسون)،
فلقد أدلى الرجل بتصريحات عام 2007 تشى بقناعته بأن الإنسان الأسود أدنى من نظيره الأبيض فأحاطت بالرجل عاصفة سياسية تدينه، ولكن الحقيقة أن العنصرية هى إحدى متلازمات الحياة الفكرية فى شمال العالم فلقد كان تاريخها الطويل ومازال ضرورة لاستمرار الحروب. فجرائم البشرية البشعة لايمكن تبريرها للقاتل إلا إذا اعتبر القتيل أدنى من إنسان. هذا التاريخ الطويل للعنصرية لعب فيه العلماء والمستشرقون دورا أساسيا، رغم مايدعونه من تجرد وموضوعية.
وهكذا لم يكن (واتسون) إستثناء فى تاريخ العلماء ولا الفلاسفة ولا المؤرخين. فالرجل الحاصل على شرف نوبل الرفيع كان فى حقيقته من سلالة العلماء الذين عملوا فى مختبرات أوروبا يدرسون هل الإنسان الأسود هو إنسان بحق؟ أم أنه حلقة وسيطة بين القرد والإنسان وها هو (فولتير) رمز الحريات الكبير فى القرن الثامن عشر يصف الإنسان الأسود مؤكدا دونيته.
مسلسل طويل من أسماء العلماء المستشرقين ومراكز الأبحاث التى تروج لدونية الآخر وتبرر لحتمية تحطيم مجتمعاتهم.
قبل وأثناء الثورة الصناعية فى قلب أوروبا نشأت فى بلدان السواحل مجتمعات الأساطيل التى تغزو قارات العالم البعيدة وشعوبها الأقل حظا. وهكذا نشأت تجارة العبيد المحتطفين من أفريقيا
كانت مقدمات السفن لاتتوقف عن شق عباب البحار فى مسارات عرفت باسم (مثلث تجارة العبيد) فمن غرب إفريقيا إلى ليفربول ثم يكتمل المثلث برحلة أخرى إلى جزر الكاريبي. آلاف الرحلات نقلت ما يقارب من أربعة ملايين أسود كانوا أثمن جواهر ذاك الزمان. رجال ونساء وصبية وفتيات تم اختطافهم من غرب إفريقيا فصاروا عبيدا بمجرد انقطاعهم عن أهاليهم. وهكذا كانت السفن تلقى العبيد فى هافانا) أكبر مركز لتجمع العبيد على أطراف القارتين الكبيرتين أمريكا الشمالية وشقيقتها الجنوبية بالعبيد وما هى إلا أيام حتى تعود محملة بالقطن إلى الشواطيء البريطانية مرة أخرى إلى ميناء ليفربول ذاته.
كانت العملية تدور بكفاءة مذهلة تشى بكل ما للصناعة الرأسمالية من قدرات تنظيمية وقانونية، وهندسية دموية، ومتوحشة فلقد كانت الأرباح هائلة. كان العبيد ضرورة لمزارع القطن ولاقتحام أمريكا، ولما كان القطن ضروريا لمصانع مانشستر فلقد شقت قناة توجد حتى اليوم تحمل اسم «هدرزفيلد» لتسهيل انتقاله من ليفربول لمانشستر.
كانت آلة تعظيم الأرباح تدور، وتقليل هامش الخسارة يبرر كل شيء فكل الأمور كانت تنظمها قوانين وجداول وقرارات ملكية برلمانية وتحميها الأساطيل كان الأمر يدور بجدية وسياسية كما يدور اليوم مع النفط، أو مع القوى الإقليمية التى تشكل خطرا على تجارته فلقد كانت تجارة العبيد تمثل 70% من ضرائب التاج البريطانى فى يوم من أيام ذلك الزمان. أما عن أصحاب السفن أو ممولى رحلاتها من الرأسماليين فلقد كان من الواجب حماية مصالحهم وتبريرها، وهكذا دخلت صناعة تأمين تجارة العبيد تعوض أصحاب السفن عن العبيد الذين يلقون بهم فى المحيط.
كان هؤلاء الملايين الأربعة من العبيد هم جدود الطفل «كاسيوس كلاي» الذى ولد جميلا، ونشأ ممشوق القوام ذكيا لماحا خفيف الظل وشاعرا بالسليقة كان يرقص كالفراشة ويلدغ كالنحلة، وكان القدر معه فلقد سار فوق أجساد خصومه من كافة الألوان فى حلقات الملاكمة والمصارعة
كان الثانى يحاصره كما كان يحاصر السود الأمريكيين فى كل شيء يحاصرهم فى قناعتهم وفى اللغة التى يتحدثونها، وفى كون الملائكة بيض اللون، وفى كون المسيح أشقر الشعر كان الشك يصاحبهم كما يصاحبنا اليوم فى الشرق العربى.
وهكذا تحرك التيار الهادر لملايين السود الأمريكيين ينقب بعيدا عن القلب القاسى لعالم الرأسمالية، وضرورة تربحها وعبقريتها فى الإدارة كانت أفكار الاشتراكية، وحركات التحرر الوطنى تحوم حول العالم تدعو لخلاص الإنسان اختار «كاسيوس كلاي» جزءا من تراث إفريقيا السوداء فكان الإسلام وشعاره (لا إله إلا الله) رمز التحرر فلقد كانت صيحة لحرية الإنسان العبد وتمرده على ألوهية ملاك العبيد. تطرف «كاسيوس كلاي» فى بدايات بزوغه معلنا (أن الإنسان الأبيض هو الشيطان ذاته)، ولكنها كانت صرخة السود الأمريكيين المذبوحين من الألم. كان صراع الأفكار وسط السود الأمريكيين كبيرا فتعدلت قناعاته من خلال موج هادر من الكتابات والافكار والمواكب للسود الامريكيين وها هى رموزهم تسقط مدرجة بالدماء فى الصراع الكبير «مالكوم اكس» و"مارتن لوثر كينج" فلقد كانت أمريكا ذاتها فى صراع كانت لحظة الميلاد الحقيقى وتحرره كالفراشة هى تغييره لاسمه فصار (محمد علي) رافضا اسمها الاوروبى الذى اطلق على جدوده ممن تملكوهم كعبيد، وكانت لحظة انتصاره، ولدغه كالنحلة لخصومه هى لحظة رفضه التجنيد فى حرب فيتنام رافضا المشاركة فى احدى الجرائم المتتالية لألهة الرأسمالية التى لا تستطيع الحياة دون حرب.
رحل «محمد على كلاي» الرمز لصراع الإنسان ضد تاريخ طويل من القسوة والاستغلال والعار تتغير اشكاله من تجارة العبيد لمحارق اليهود لجرائم اليوم فى الفتك بنسيج مجتمعات الشرق. جرائم ضد الإنسانية وإن لم توصف بهذا بعد.
المقال نقلاً عن صحيفة "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة