تحمل الرسالة الإسلاميَّة معاني جليلة ومقاصد شريفة، اجتمعت إجمالًا في رسالة المسجد باعتباره المنطلق الأول لكل عوامل البناء.
تحمل الرسالة الإسلاميَّة معاني جليلة ومقاصد شريفة اجتمعت إجمالًا في رسالة المسجد باعتباره المنطلق الأول لكل عوامل البناء، سواء أكان البناء للإنسان:
الفرد أم للمجتمع، قال تعالى:(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ . أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة: 108، 109). وقد برهن التطبيق العملي لمسيرة مسجد المدينة المنورة المبارك الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترسيخ مقصد العمران وتزكية النفوس وعبادة الله عز وجل، ولا شك أن كل هذه الأغراض الشريفة مقصودة للشارع الحكيم. والاستشهاد بفكرة المسجدية هنا يمكن إثراؤها والتوسع في مفرداتها من خلال نظرية «التجريد» في علوم القرآن والبلاغة، والتي تجرد معاني عديدة من خلال اللفظ الواحد عن طريق الابتعاد عن النظرة إلى المفرد بعينه؛ بل ينطلق إلى تحقيق المعاني الكثيرة التي تنطوي تحت المسجدية أو كما يقول العلماء من عَلَم الشَخْص إلى علم الجنس.
وهذه النظرة هي التي أثْرَت الحضارة الإسلاميَّة بأبعادها المتعددة، حيث أخذ العلماء من الألفاظ الفردية منطلقًا إلى المعاني الكلية التي أدت إلى التقدم العلمي في مجالات العلم التجريبي كالطب والرياضيات والفلك، فضلًا عن المعرفة الدقيقة للعلوم الشرعيَّة؛ ولعل في مسلك الإمام القرافي رحمه الله تعالى في أول كتابه الماتع «الفروق» ما يؤكد هذا الاتجاه ويؤيده؛ حيث إنه لم يرتضِ الوقوف عند الجزئيات دون أن تكون منطلقًا للكليات.
إذا تقرر ذلك فإن العمل الجماعي الذي يقوم على النظرة الراقية للعمل الفردي هو الأساس في تقدم المجتمعات، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ربَّى صحابته الكرام رضي الله عنهم حتى صار كل واحد منهم كأنه يمثل أمةً وحدَهُ، فانطلقوا إلى التعاون في بناء الدولة الوليدة ونشروا الأخلاق القيمة والسلوك الحسن في ربوع الأرض، وكان كل واحد منهم عندما يأتي إلى مجتمع ما كأنه الإسلام بعظمته وكماله، فتُرْجِمَت تكاليفُ الإسلام وشعائره في سلوك هؤلاء في تعاون وتنسيق غير مبدِّد للجهود، وكأنه يرسم لنا الخطة الحكيمة في العمل المؤسسي، بل لم يقف الحد عند الأفكار فقط، وإنما ترجمت هذه المعاني إلى واقع متطور مرن مع كل ما يمكن الاستفادة منه في تكوين الدولة وتطوير أجهزتها، وقد رأينا ذلك في مجال الإدارة العامة والصحة والتعليم ومؤسسة الوقف ومؤسسة الجيش وغير ذلك.
وإن من يتتبع مسيرة هذا العمل المؤسسي؛ يلحظ أن المسلمين لم يقفوا عند البدايات، وإنما انطلقوا إلى التطوير بكل أبعاده؛ حيث وجدوا لذلك سبيلًا. لكن اللافت للنظر أنه لم يكن محبَّبًا لدى المسلمين العمل على تقويض المؤسسات القائمة، بل كان ذلك يمثل جريمة منكرة، ففي مسجد الضرار الذي أقامه اثنا عشر رجلًا من المنافقين، قال تعالى:(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) (التوبة: 107، 108)، حيث قصدوا إعاقة مسيرة الدولة المباركة وأخذها إلى حيث الهاوية وإلى حيث لا تقوم لها قائمة، وكان مستندهم في الفكر الخبيث أن ألبسوه ثوب الدين، فقصدوا إلى أهم شيء في الإسلام وهو المسجد، وجعلوه هو المنطلق لفكرهم الهدَّام، ومن هنا فإن هذا الفعل من هؤلاء المنافقين يمثِّل نموذجًا يكثر تكراره في واقع الناس عبر العصور بصور تناسب هذا الواقع. فنجد قيام جماعات متطرفة ضلت الطريق تريد أن تحقق أغراضًا لها فتلجأ إلى مقررات هذا الدين الحنيف وتجعلها الوسيلة التي تقفز من خلالها إلى إيجاد كيانات موازية لمؤسسات الدولة المستقرة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنها أرادت السيطرة على بعض المؤسسات لتجعلها تتناغم مع كياناتها الموازية، ولولا فضل الله تعالى على بلدنا لكُنَّا في أزمة حقيقية لا يعلم مداها إلا ربُّ العزة، ومن هنا فإن العمل الموازي ضرره كبير وخطره عظيم، إذ يقوم على العمل الدؤوب بنَفَس طويل على هدم المؤسسات العريقة، قصدًا إلى الانقلاب عليها وتحويل مسارها لخدمة أغراضهم الضيقة في سطحية وجرأة ومجازفة.
ولنا أن نتساءل: لماذا لا نعمل كلنا تحت مظلة الدستور وسلطة القانون، وهما يناط بهما تنظيم العلاقات داخل الدولة والمجتمع، إذا كنا نريد بناء حقيقيًّا لمجتمعنا؟ والإجابة عن هذا السؤال: لا بد أن تفصح عن المقاصد الخفية التي تضمرها هذه الجماعات لأجل أن تصل إلى أهدافها. وفي كثير من الأوقات كنت أتساءل: لماذا سكت علماء الأزهر الكبار المعتبرون عن قضايا عديدة أثارها هؤلاء في تاريخ مصر المعاصر؟ ثم تبين لي الجواب بأن علماء الأزهر يدركون المصلحة على وجهها ومقصودها الشرعي، وأنهم يرون أن البناء المثمر والذي يقود المجتمع إلى الأمام يكون بالعمل الجاد في إطار الدولة، وأن مثل هذه الكيانات الموازية لا تصنع مجتمعًا، فضلًا عن أن تُبْقِي ما هو موجود.
حفظ الله مصر من كل مكروه وسوء .. وللحديث بقية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة