لا أدري متى نعترف أننا لم نتعامل مع أجيالنا الجديدة بقدر من الرحمة، وأن أجيال مصر أكلت بعضها بضراوة.
لا أدري متى نعترف أننا لم نتعامل مع أجيالنا الجديدة بقدر من الرحمة وأن أجيال مصر أكلت بعضها بضراوة، وأن فرص الشباب المميز الواعد أصبحت نادرة إن لم تكُن مستحيلة.. لا أدري متى نواجه الحقيقة ونعترف أن شبابنا لم يعد يجد المكان المناسب والعمل المناسب والحياة الكريمة أمام اختلال منظومة العدالة وطغيان فئة من الناس على مستقبل أجيال كاملة.
والغريب أن البعض ما زال يتحدث عن ثوابت قديمة وحكايات عن الانتماء الغائب ومشاعر صادقة عن الارتباط بالأرض وحب الوطن، وهذا العشق الأزلي الذي كان يميز الإنسان المصري في كل الأزمنة والعصور.. تراجعت كل هذه الثوابت أمام قسوة الظروف واختلال القيم، وقبل هذا كله افتقاد العدالة.
أقول هذا وأنا أتابع بحزن شديد ما تنشره الصحف ووسائل الإعلام حول تغيير شبابنا لجنسياتهم أمام البحث عن فرصة، وأن هؤلاء الشباب مخترعون صغار أو أصحاب مواهب في كل المجالات.. بدأت هذه القصص تتناثر كالشظايا في وجه مجتمع ظالم لم يعد قادرًا على أن يميز بين أبنائه ويضع كل صاحب موهبة في مكانه الصحيح.
سوف يتساءل البعض: وأين الانتماء؟ وأين مصر التي كنا نذوب فيها عشقًا؟.. وأقول: إن هذا الشاب الذي اختار وطنًا آخر طاف على كل المكاتب واستقبله عشرات المسئولين، وقدموا له عشرات الوعود الكاذبة، وأخذوا معه الصور التي زينت الصحف ووسائل الإعلام وكل ما خرج به هذا الشاب من مشواره في المكاتب ورقة صغيرة تشهد بتفوقه ونبوغه، وبعد ذلك خرج إلى الحياة ولم يجد عونًا من أحد فأصابته أمراض الإحباط والكآبة.. هل بعد ذلك يلومه أحد إذا وجد وطنًا آخر يُقدِّر موهبته ويُقدِّم له كل وسائل التفوق والنبوغ.. هل نلوم مدرسة وفَّرت له كل شيء ليشارك في مسابقات دولية ويحصل على الجوائز ويصبح حديث العالم كله.
يُخطئ مَن يتصور أن حب الوطن يعني الإحباط وإهدار القيمة.. إن هذا الحب لا بد أن يُترجم إلى كل صور الرعاية والحماية وإتاحة الفرص، وإذا توقف عند أغنية أو شعار أو خطبة عصماء؛ فهو لا يترك بعده أثرًا.. إن هذا الشاب المتفوق الذي يبحث عن مؤسسة تتبنى أفكاره الخلاقة يقرأ كل يوم في الصحف وعلى شاشات الفضائيات المعارك التي تدور بين النوادي لشراء وبيع لاعبي كرة القدم، وكلها أرقام بالملايين..
إن هذا الشاب يندم على اليوم الذي استخدم فيه قلمه ولم يستخدم فيه قدمه، والأغرب من ذلك صفقات البيع والشراء في الأسواق العالمية بعشرات الملايين من الدولارات، إن هذا الشاب العالم لا يريد الملايين؛ إنه فقط يبحث عن رجل أعمال يتبنَّى له مشروعًا أو اختراعًا لكي يصبح حلمه حقيقة.
ماذا يفعل هذا الشاب وهو يقف وحيدًا وغريبًا وعاجزًا أمام مجتمع قام بتوريث كل الوظائف فيه، حاول أن تقرأ مسابقات التعيين في وظائف الدولة وسوف تكتشف أنها كذبة كبرى؛ لأن المسابقة انتهت وأبناء المسئولين سطوا عليها والإعلان مجرد إجراء قانوني للتستر على جريمة اسمها الاعتداء الغاشم على تكافؤ الفرص والعدالة.. كل الوظائف في مصر الآن دخلت ساحة التوريث، كل مسئول في منصب أو موقع قام بتأمين مستقبل أبنائه وكأن الدولة اختارته لكى يدير شئون أسرته الصغيرة، وإذا فاض شيء هناك أسرته الأكبر قليلا.. إذا تتبعت مسيرة الوظائف في السنوات الماضية فسوف تكتشف كيف تمت عمليات التوريث في القضاء والإعلام والجهات السيادية والكهرباء والبنوك والبترول والجامعات ولم يبقَ شيء في هذه المواقع لشاب متميز أو مشروع عالم صغير يبحث عن فرصة..
إذا انتقلنا الى مجالات البحث العلمي والدراسات العليا، فإن البحث العلمي في مصر ومنذ سنوات بعيدة سيطرت عليه خلايا الإهمال أمام ميزانيات خاوية وإهمال متعمد وابتعاد كامل عن روح العصر وما يجرى فيه.. إن ميزانية البحث العلمي في مصر لا ترصف طريقا ولا تقيم محطة للصرف الصحي أو المياه، وبقيت وزارة البحث العلمي حائرة في كل تشكيل وزاري جديد؛ هل تصبح وزارة مستقلة أم تبقى فرعًا من فروع التربية أو التعليم؟ ويكفي أن تشاهد كل يوم آلاف الحاصلين على الماجستير والدكتوراه ومنهم العلماء وهم يفترشون الأرض أمام مجلس الوزراء؛ حيث يرفض المسئولون مجرد الحوار معهم.. إذا كانت هذه أساليب التعامل مع عقول مصر المبدعة فماذا يحدث للشباب الواعد؟!
سوف أجد من يتحدث عن الانتماء ويتساءل: لماذا غابت كل هذه المشاعر في أجيالنا الجديدة؟ وكيف نسترد هذا الإحساس بحب هذا الوطن؟ لقد عاش الفلاح المصري قرونًا طويلة يرفض الهجرة خارج وطنه، وكان يحلف بغربته إذا ترك كفر الشيخ وذهب إلى طنطا أو دمنهور، وكان العامل المصري ثروة حقيقية في كل شيء.. فماذا حدث لنا؟ إذا أردت الإجابة عليك أن تسأل أين العدالة؟
حين غابت موازين العدالة واختلت في سلطة القرار، وفى منظومة الحياة، وفى التركيبة الطبقية البغيضة، التي جعلت أبناء الوطن الواحد قادرين وعاجزين، وملاك وأجراء، وضحايا الفساد وضحايا الفقر؛ ساعتها سوف تدرك لماذا تغيرت المشاعر، وأصبح الانتماء الحقيقي للثروة والمال، ولم يعد انتماء لتراب هذا الوطن.
حين شاهد الشاب المصري زميله الفاشل في الدراسة يرث وظيفة ومنصب أبيه ولم يشفع له تفوقه تغيرت حساباته واختلت مشاعره.. إن الانتماء ليس قصة حب من طرف واحد؛ لأن كل أنواع الحب من طرف واحد فشلت؛ لأنها تطلب العطاء بلا مقابل وفي مجتمع من البشر وليس الأنبياء يصبح من حق كل إنسان أن يأخذ مقابل ما أعطى، وإذا كانت هناك أجيال فعلت ذلك في زمان مضى فهناك أجيال جديدة ترفضه.
أنا لا ألوم شبابًا صغيرًا حصل على جنسية أخرى من أجل فرصة عمل، أو اختراع أو جائزة يستحقها.. ولكنني ألوم مجتمعًا حرمه من حقه في حياة كريمة، في تعليم متطور، ورعاية صحية متقدمة، وبيت آمن وأسرة متماسكة.
إن هذا الشاب ينظر حوله ليجد أبًا مريضًا أو أمًّا تعمل طوال اليوم، وحوله عشرات الوجوه التي تنشرها وسائل الإعلام من الإعلانات المستفزة والقصور الفارهة والسيارات الحديثة بينما يجد نفسه قابعًا في ركن مظلم أمام اختراع أو محاولة استكشاف عقيمة يضعها المسئولون في مكاتبهم دون رعاية أو اهتمام.
لقد تحدثت أكثر من مرة عن هجرة الكفاءات النادرة من مصر، وهذه الظاهرة ليست جديدة علينا، فهناك أجيال من أبرز مواهب مصر هاجرت في أعقاب نكسة 67 ويومها قلنا إن هناك أسبابًا لذلك أمام الإحباط وغياب الحلم وقسوة المحنة.. والآن تكررت هذه الظاهرة بعد ثورة يناير.. ولا شك أن الحملة التي تعرض لها شباب مصر والاتهامات بالخيانة والعمالة من بعض صغار النفوس من الأفاقين والمأجورين وكذابي الزفة كانوا وراء هجرة أعداد كبيرة من شبابنا المتميز الذي لم يحتمل هذا الحصار البغيض في عمله ورزقه وأحلامه.
إن هذه العصابة التي طاردت أحلام جيل ثورة يناير كانت سببًا في حالة الإحباط والهروب التي أصابت الأجيال الجديدة من شباب مصر يضاف لذلك كله غياب الفرص الحقيقية أمام هذه الأجيال.. في العهد السابق كان يقال إن هنا كفئة تقطف الثمار من الأشجار قبل أن تنضج، بينما الملايين جالسين ينتظرون ثمارًا لن تجيء.. وما زالت هناك فئة تسطو على الثمار كما اعتادت في زمان مضى.. والمطلوب أن تحقق العدالة شيئًا من تكافؤ الفرص بين شباب مصر.
لا ينبغي أبدا أن نتجاهل قضايا الانتماء، على الرغم من أنه يبدو مجرد مشاعر ولكنه يصنع أحلامًا ويشكل وجدانًا ويبني جسورًا من التواصل والقدرة والإرادة.. لقد غاب الانتماء في المدرسة والأسرة والجامعة ووسائل الإعلام والثقافة وقبل هذا كله في سياسات خاطئة لم تراعِ فيها الجوانب الاجتماعية والإنسانية في تشكيل البشر.. ليس معنى الانتماء أبدا أن نهدر مستقبل أجيال قادمة فنوزع الأراضي بلا حسابات، ونقترض الأموال بلا حدود، ونبيع الحاضر والمستقبل من أجل فئة من الناس أعطت نفسها الحق في امتلاك وطن وحرمان شعبه.
لقد غاب الانتماء أيضا أمام ثقافة قامت على الأنانية والجشع وحب الذات في فن هابط وغناء ساذج ومسلسلات نشرت الجرائم والفساد وحاصرت الأجيال الجديدة بمفاهيم هابطة، فغاب الوعي وتراجعت كل وسائل الفهم والتمييز.
إن المطلوب الآن أن ندرس أسباب هذه الحالات الفردية التي جعلت بعض شبابنا يبحث لنفسه عن مستقبل بعيدًا عن وطنه حتى لو تغيرت جنسيته وحمل جواز سفر آخر.. وهذا يعني أن للظاهرة أسبابها الموضوعية التي تحتاج إلى نظرة شاملة للواقع المصري كله..
لقد أصبح العالم قرية صغيرة وأصبحت وسائل التواصل بين الشعوب وليس بين الأفراد واقعًا لا يمكن الهروب منه.. نحن أمام ثقافة عالمية تنتقل بسرعة رهيبة وأمام أفكار جديدة؛ فيها الصالح والطالح، ولكنها متاحة أمام الجميع وأمام إغراءات رهيبة في أساليب الحياة وفرص العمل والتميز والثراء، وهذه الأشياء جميعها تحرك خيال الشباب وأحلامهم لبناء مستقبلهم.
إن من حق الشباب أن يحلم وأن يجسد أحلامه في واقع جميل وأن يجد الأيادي التي تساعده لتحقيق هذه الأحلام، ومن حقه أيضا أن يجد لنفسه أكثر من طريق.
سوف تكون خطيئة كبرى في حق أجيالنا القادمة أن نحرمها من مجرد الأحلام، ثم نقف أمام مستقبلها وفي نهاية المطاف نوجه لها سهام الاتهامات بالخيانة وعدم الانتماء حين تبحث عن مستقبلها في مكان آخر.
إن 60 مليون شاب في مصر الآن يمثلون ثروتها الحقيقية ولا يعقل أن يظل جيل واحد قابعًا في مكان قصي يسيطر على كل قرار ويحرك كل شيء دون مراعاة لحقوق أجيال أخرى في العمل والمستقبل والحياة الكريمة؛ لأن في ذلك ظلم شديد لهذه الأجيال الواعدة.
لا يمكن الحديث عن هجرة الشباب دون أن نقترب من الأسباب الحقيقية، وحين تتوافر الظروف المناسبة لتحقيق أحلام هؤلاء الشباب فلن يرحل منهم أحد، ولن يستبدل جواز سفره بجنسية وطن آخر.
قبل أن تلوموا الشباب.. لوموا الواقع البغيض الذي فرض عليهم ما لا يحبون.. وليجلس كل واحد منا في أماكنهم حتى يدرك حجم المأساة.
..ويبقى الشعر
مَا زالَ يرْكضُ بَيْنَ أعْمَاقى
جَوادٌ جَامحٌ..
سَجنوهُ يوما في دُروبِ المسْتحيلْ..
مَا بَيْنَ أحْلام الليَالى
كانَ يَجْرى كلَّ يَوْم ألفَ مِيلْ
وتكسّرتْ أقدامُهُ الخضراءُ
وانشَطرتْ خُيوط ُالصُّبح في عَيْنيهِ
وَاختنق الصَّهيلْ
مِنْ يومها وقوافِلُ الأحْزان تـَرتـعُ في رُبُوعى
والدّماءُ الخضْرُ في صَمتٍ تسيلْ
من يَومهَا.. والضَّوءُ يَرْحلُ عنْ عُيونى
والنـّخيلُ الشـّامخُ المقهُورُ
فِى فـَزع ٍ يئنٌ.. ولا يَمِيلْ..
مَا زالتِ الأشـْبَاحُ تسْكرُ مِنْ دمَاءِ النيلْ
فلتخبرينـِى.. كيف يأتى الصُّبْحُ
والزمَنُ الجمِيلْ..
فأنا وَأنت سَحَابتـَان تـُحلقـَان
على ثـَرى وطن ٍبخيلْ..
من أينَ يأتِى الحُلمُ والأشْباحُ تـَرتعُ حَوْلنا
وتغـُوصُ في دَمِنا
سِهَامُ البطـْش.. والقـَهْرُ الطـَّويلْ
مِنْ أينَ يأتى الصبْحُ
واللــَّيْـلُ الكئيبُ عَـلى نزَيف عُيُوننـَا
يَهْوَى التـَسَكـُّعَ.. والرَّحيلْ
من أينَ يَأتى الفجْرُ
والجلادُ في غـُرف الصّغـَار
يُعلمُ الأطفالَ مَنْ سَيكونُ
مِنـْهم قاتلٌ ومَن ِالقتيلْ..
لا تسْألينى الآنَ عن زَمن ٍجميلْ
أنا لا أحبُّ الحُزنَ
لكن كلُّ أحزانِى جراحٌ
أرهقتْ قلبى العَليلْ..
ما بيْنَ حُلم ٍخاننى.. ضاعتْ أغَانِى الحُبّ..
وانطفأتْ شموسُ العُمر.. وانتحَرَ الأصِيلْ..
لكنه قدَرى بأن أحيا عَلى الأطـْلالْ
أرسمُ في سَوادِ الليل
قِنديلا.. وفجرًا شاحبًا
يتوكـَّآن على بقايَا العُمر
والجسدِ الهزيلْ
إنى أحبُّك
كلما تاهت خـُيوط ُالضَّوء عَنْ عَيْنى
أرى فيكِ الدَّليلْ
إنى أحبـُّك..
لا تكونِى ليلة ًعذراءَ
نامت في ضُـلـُوعى..
ثم شرَّدَها الرَّحِيلْ..
أنى أحبـُّك...
لا تكـُونى مثلَ كلِّ النـَّاس
عهدًا زائفـًا
أو نجْمة ًضلتْ وتبحثُ عنْ سبيلْ
داويتُ أحْزان القلوبِ
غرسْتُ في وجْهِ الصَّحارى
ألفَ بسْتان ٍظليلْ
والآن جئتك خائفـًا
نفسُ الوُجوه
تعُودُ مثلَ السّوس
تنخرُ في عِظام النيلْ..
نفـْسُ الوُجوُه..
تـُطلُّ من خلف النـَّوافذِ
تنعقُ الغرْبانُ.. يَرتفعُ العَويلْ
نفسُ الوجُوه
على الموائِد تأكلُ الجَسدَ النـَّحيلْ..
نـَفسُ الوجوهِ
تـُطلُّ فوق الشاشَةِ السَّوداءِ
تنشرُ سُمَّها..
ودِماؤنـَا في نشْوة الأفـْراح
مِنْ فمهَا تسيلْ..
نفسُ الوجوهِ..
الآن تقتحِمُ العَيُونَ..
كأنها الكابُوس في حلم ٍثقيلْ
نفسُ الوجوه..
تعُودُ كالجُرذان تـَجْرىَ خلفنـَا..
وأمَامنا الجلادُ.. والليلُ الطويلْ..
لا تسْألينى الآن عَنْ حُلم جَميلْ
أنا لا ألومُ الصُّبحَ
إن ولــَّى وودّعَ أرضنـَا
فالصبحُ لا يَرضى هَوَان َالعَيْش
فى وَطن ٍذليلْ
أنا لا ألومُ النارَ إن هَدأتْ
وصَارتْ نخوة عرجاء
فى جَسَد عليلْ..
أنا لا ألـُوًمُ النهرَ
إن جفتْ شواطئـُه
وأجدَبَ زرْعُه..
وتكسَّرتْ كالضَّوء في عَيْنيهِ
أعناقُ النخيلْ..
ما دَامَتِ الأشْباحُ تسْكرُ
منْ دمَاء النيلْ..
لا تسَألينى الآنَ..
عن زمن ٍ جميلْ
«قصيدة جاء السحاب بلا مطر سنة 1996»
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة