أتحدث اليوم عن فاروق شوشة بمناسبة حصوله على جائزة النيل، وفاروق شوشة غنى عن التعريف
أتحدث اليوم عن فاروق شوشة بمناسبة حصوله على جائزة النيل، وفاروق شوشة غنى عن التعريف، فقد ظل أكثر من خمسين عاما يعرف نفسه بنفسه، ومع هذا كان فوزه بالجائزة مفاجأة سارة أيقظتنا على ما نحن فيه، وأكدت لنا أن القيمة الحقيقية ربما تعرضت لمن يجهلها أو يتجاهلها، لكن أحدا لا يستطيع مهما صنع أن يمنع قيمة حقيقية من أن تكسب الجولة الأخيرة، فإذا حدث هذا دون توقع فرحنا مرتين، مرة للحق، ومرة لصاحبه. وحول هذه الخواطر وهذه التداعيات أحدثكم عن فاروق شوشة فلا أدرى من أين أبدأ.
وأنا أعرف فاروق شوشة منذ أكثر من ستين عاما، حين كان لايزال طالبا فى كلية دار العلوم، ونحن ننتمى لجيل واحد، بل نحن من عمر واحد تقريبا. وقد لقيته أول مرة فى إحدى الأمسيات الشعرية، وجمع بيننا الشعر والشباب وأحلام المرحلة. وتابعته بعد أن تخرج والتحق بالإذاعة وأصدر مجموعته الشعرية الأولى فى أواسط الستينيات، وعندما أخذ يقدم برامجه الثقافية فى الإذاعة والتليفزيون، وحين أصبح أمينا عاما لمجمع اللغة العربية، وأخيرا حين عملنا معا فى لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، ثم فى بيت الشعر الذى رشحه لجائزة النيل.
هذه السيرة الحافلة التى لم أحدثكم فيها عن إصداراته الكثيرة المتنوعة، تلتقى أطرافها فى محور يجمع بينها، وهو الشعر العربي، الذى وهبه فاروق شوشة حياته كلها دارسا ومدرسا وقارئا وكاتبا وإذاعيا ولغويا، وهى طاقات تجتمع كلها فى شعر فاروق شوشة الذى لا ينتمى لتيار محدود، وإنما ينتمى للشعر العربى كله، ففيه حرفية القدماء ومهاراتهم، وفيه ثقافة المجددين ومغامراتهم، فيه لغة الرومانتيكيين وعالمهم، وفيه واقعنا الراهن ومفردات حياتنا اليومية.
تقرأ له أشعاره التى يعبر فيها عن تجاربه الحية، فتجد العالم الذى تجده فى أشعار أبناء جيله، بموضوعاته ومفرداته وصوره وإيقاعاته:
وها أنت تمضي، تلاحقك القرية الزاحفة
تراها حواليك فى القاهرة
بقلب الميادين، خلف البيوت، أمام الدكاكين
ملء الشوارع والأرصفة
وتقرأ له قصائده التى نظمها فى شعراء الأجيال السابقة كالعقاد، ومحمود حسن إسماعيل، وسعيد عقل، فتجد عوالم هؤلاء، وتجد موضوعاتهم ولغاتهم، فى قصيدته عن سعيد عقل التى شارك بها فى احتفال لبنان بالعيد المئوى لميلاد شاعره لا نجد شعرا فقط، بل نجد فكرا أيضا، والشعر الذى نجده فى القصيدة هو شعر فاروق شوشة، لكنه يتمثل فيه شعر سعيد عقل، الذى يتمثل فيه سعيد عقل شعر البارناسيين الفرنسيين أمثال ليكونت دى ليل، وسولى برودوم:
نحت على الضوء أم إيقاع عندلة
وفتنة جُسدت، أم موعد خطر؟
رخامة من أثير، فى تهدجها
تململ الشجن الفوار والوتر
شعر من النسق العالى هتفت به
فاعشوشبت منه أرض جادها المطر
أنطقت لبنان فصحاك التى انبجست
ملء الضلوع فكان الوقد والشرر
ولأن فاروق شوشة شاعر، ولأنه يعرف الشعر العربى أكثر من غيره، فهو شديد التواضع حين يتحدث عن نفسه، انظر إليه كيف يقف مستغفرا فى محراب مولاه:
مولاى الشعر!
اغفر لى أنى قد جئت بلا استئذان
ووقفت ببابك أدخل أم لا أدخل
يملؤنى شجن الوقت ويوقفنى لغو الحجّاب
وعربدة الأعوان
يبهرنى ضوؤك،
تغشى عيناى فلا تريان
وهذا هو فاروق شوشة فى كلمة واحدة، الشاعر، أقول الشاعر ولا أضيف لها تلك الصفة المريبة التى ابتذلت فى الصحف من كثرة ما أطلقت على أسماء لم نسلم لها بصفة أولى حتى يكون لها الحق فى إضافة صفة أخرى يصبح بها الشويعر شاعرا كبيرا. والنويقد ناقدا خطيرا!
ولأن الأمية تزداد انتشارا حتى بين الحاصلين على أعلى الشهادات، فقد تحولت الصفة المسروقة أو المختلسة إلى حق معترف به، وأصبح لدينا كتاب وشعراء ونقاد ومفكرون ومطربون وملحنون بوضع اليد، وصارت الثقافة العشوائية ثقافة سائدة تزاحم الثقافة الحقيقية وتحاصرها، كما صارت السياسة العشوائية ـ والشيء بالشيء يذكر ـ سياسة سائدة، والاقتصاد العشوائي، والإعلام العشوائي، والمساكن العشوائية بالطبع.
وقبل بضعة أيام قرأت فى الصفحة الأولى فى «الأهرام» أن العشوائيات اكتسحت المدن المصرية، وانتشرت فى مائتين وست وعشرين مدينة، ولم تنج منها حتى الآن إلا ثمانى مدن، يعنى أن المدن الموبوءة بلغت نسبتها 96%، وفى اعتقادى أن هذا هو ما حدث فى الثقافة أيضا، بل إن العشوائيات بدأت فى الثقافة، وانتقلت منها إلى مختلف مجالات الحياة والعمل، حتى وصلت إلى ما لم نكن نتصور أن تصل إليه وهو التدين، التدين الذى يفترض أن نتعلم به النظافة والاستقامة والسمو والوقار والتزام الحدود، لم ينج من العشوائية، كل من هب ودب أصبح مفتيا وإماما وخطيبا، وربما صار أميرا ودعا للجهاد، وأعلن الحرب على الدولة والمجتمع، وقد أصبحت دور العبادة تبنى فى العمارات السكنية، وتحت الجسور، وفى الحدائق العامة، وفى الممرات الفاصلة بين المباني، وتزود بمكبرات الصوت الزاعقة، وتزين بالأضواء الملونة التى تزين بها المسارح والملاهي، والعشوائية إذن لم تعد مجرد هوامش خارجة على القانون، وإنما صارت أمرا واقعا، وثقافة عامة تفرض نفسها علينا حتى ونحن نتحدث عن الشعر، وعن الشعراء.
تقول معاجم اللغة: إن العشو هو العجز عن الرؤية ليلا أو نهارا، وهو العمى وتجاوز الحد، والعشوائية إذن هى الخلط بين الأشياء والأشكال والألوان، وهى تزييف الحقيقة، وتزوير الشهادة، والخروج على المنطق والقانون، وكما تسرق الأرض الزراعية وتتحول إلى أكواخ موبوءة، ودروب ملتوية قذرة، تسرق الأفكار والأسماء والألقاب والألوان والألحان، وتلفق تلفيقا، ويركبها اللصوص، ويخبطون بها خبط عشواء، ويصبحون بها كتابا وشعراء وفنانين، ثم لا يكتفون، وإنما يزيدون فيصبحون كبارا، ويصبحون مشاهير، ويصبحون مقدمين، وقد انتشر هذا الوباء الوبيل واستقوى حتى لم نعد نتوقع معه التزاما بقيمة حقيقية، أو بمقياس صحيح، ولهذا فوجئنا بفوز فاروق شوشة بالجائزة.. فوجئنا بفوزه، لأنه يستحقها بجدارة!
هل هى بداية صحوة نخرج فيها من ثقافة العشو والتخبط والسير على غير هدى والضلال والتضليل إلى ثقافة العقل والاستنارة والحرية والجهر بالحق والتزام الحدود؟.
هل آن لنا أن نستخدم اللغة بحقها وأن نضع الكلمة فى مكانها وأن تسمى الاشياء بأسمائها فالشاعر شاعر، والشويعر شويعر، والكاتب كاتب، والكويتب كويتب، والفاعل مرفوع، والمفعول به منصوب؟!.
نقلا عن / الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة