على مدى عقود كانت بريطانيا نسخة مخففة من اليابان بعزلتها على حافة القارة الأوروبية وبإحساس الفخر بزهدها في التقرب لكل من حولها
أكثر ما يخيف في استفتاء بريطانيا بشأن عضويتها في الاتحاد الأوروبي، والذي كان له صدى كبير بين الأميركيين هو مستوى الثقافة السياسية الذي ظهر. من ذلك رفض تحمل المسؤولية، وازدراء الحقيقة، واللامبالاة المتعمدة تجاه معاناة الآخرين خارج الحدود.
كانت بريطانيا في السابق تفتخر دوًما بتأثيرها الذي يفوق وزنها الحقيقي، وكانت مثالاً للبراغماتية المستنيرة، لكن بالعودة للواقع هنا بعد نحو عقدين من الزمن في الولايات المتحدة، أجد نفسي مصدوًما لما رأيته من اضمحلال سياسي جعل أصدقائي في واشنطن يشعرون بغصة. بالطبع اعتادت بريطانيا الوقوف على مسافة من أوروبا، وأنجبت بريطانيا شخصيات مهمة مثل شخصية جون أوف كانت، الوطني المحب لبلاده في مسرحية شكسبير «ريتشارد الثاني»، الذي صاح قائلاً: «بريطانيا تلك الجوهرة الثمينة القابعة في البحر الفضي، تلك المكان الميمون، تلك الأرض، تلك المملكة هي إنجلترا». فبدعوة مايكل غروف، قائد حملة «الانسحاب» من الاتحاد الأوروبي، المدارس أن «تلقي على مسامع طلابها قصة جزيرتنا»، يقف غروف كأنه الوريث لتقليد عريق.
فعلى مدى عقود، كانت بريطانيا نسخة مخففة من اليابان بعزلتها على حافة القارة الأوروبية، وبإحساس الفخر بزهدها في التقرب لكل من حولها. ووفقا لبريندان سيميس، مؤرخ كامبريدج، في كتابه «أوروبا البريطانية» كان لبريطانيا تقليد مخالف.
ففي عام 1871 ،رثى رئيس الوزراء ويليام غلادستون «الكآبة والشخصية المبهمة المعلقة أمام أوروبا»، ثم تراجع برفق قائلاً: «لكن ليس من حقنا أن نلف أنفسنا بغلاف، لنعيش في عزلة تامة وأنانية»، مضيًفا: «إن فعلنا ذلك فلن نكون جديرين ببريطانيا، ولن نكون جديرين بها إن تبرأنا من تعهداتنا وعلاقاتنا بالآخرين، الذين يعانون أكثر مما نعاني». ذكرياتي الأولى تشبه مبدأ غلادستون في التوجه العالمي نحو الآخر، وفي الانتصار على الطائفية الضيقة.
فعندما كنت في الحادية عشرة من عمري عام 1975 ،صوتت بريطانيا بنسبة 2 – 1 لصالح عضويتها في أوروبا، متأثرة بالرسالة التي تقول إن بريطانيا تتحمل مسؤولية رخاء القارة، مطالبة إياها بأن تضع ذكريات الحربين العالميتين خلف ظهرها. ففي مقال مثير نشرته صحيفة «لندن تايمز» المعارضة للاستمرار في عضوية الاتحاد الأوروبي، تناولت الصحيفة مثالية جون إف كيندي قائلة إنه يتعين على القراء تجنب التركيز «بشكل كبير على ما تستطيع أوروبا أن تفعله من أجلنا، ولا على ما نستطيع أن نفعله لأوروبا». وواصلت الصحيفة سيرها تجاه ذكريات فترة بلوغي، إذ استدعت بيان انتخابات المحافظين عام 1992 الذي قال إن «بريطانيا استعادت مكانها المستحق في العالم بأن أصبحت قلب أوروبا».
وبعد ذلك بخمس سنوات، صاح توني بلير، الزعيم العمالي المؤيد لأوروبا، قائلاً: «إما أن نكون قادة الشعوب أو لا نكون»، وهكذا قاد الاتجاه الجريء والمثالي في اتجاه الدفع ببريطانيا داخل المنظومة الأوروبية. وكان نفس هذا الاتجاه الدولي هو ما جعل من بلادي أكثر حليف موثوق للولايات المتحدة، فشعبها وثق بالقيادة القوية للغرب الحر، حتى وإن افتقد لأعداد البشر وللثروة، التي تجعلها تعلب دوًرا أكبر من مجرد داعم. أين نحن الآن؟ فقد خلت حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الدولي من مثالية المنحى الدولي، ناهيك عن اللياقة.
فقد شجبت الحملة التي حملت عنوان «اتركوا» انفتاح بريطانيا على المهاجرين الأوروبيين، ولم تنتبه إلى أن مّد يد المساعدة لبولندا ورومانيا بمقاييس مستوى المعيشة البريطاني قد يكون أمًرا مرغوبا بل نبيلا. يزعم المشاركون في الحملة أن حشود السياح الباحثين عن الرفاهية يشكلون عبئا على الخدمات الحكومية الصحية، بينما في الحقيقة تفوق الضرائب التي يدفعها المهاجرون الخدمات التي يحصلون عليها، مما يعزز جهاز الخدمات الصحية الحكومية.
فإن كان الأطباء البريطانيون يشعرون بالإجهاد فإن هذا خطأ الحكومة البريطانية، التي تعمد وبطريقة وضيعة وغير أمينة إلى إلقاء التهم على الأجانب. وفي نفس الوقت، فإن حملة «ابقوا» داخل الاتحاد الأوروبي لم تلَق تمجيًدا من الناس.
فبدلاً من تقديم عضوية الاتحاد الأوروبي كمصدر فخر، دافعت عن الوضع الراهن بشكل مادي مخٍز، إذ حذرت الحملة من أن ترك الاتحاد الأوروبي تعني تراجع الصادرات البريطانية لأوروبا، وتراجع تسهيلات الاتحاد الأوروبي لبريطانيا، وتراجع أسعار العقارات في لندن. حتى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قاد حملة أمام لافتة، مصرًحا بأن متوسط دخل الأسرة في بريطانيا سوف يتراجع بواقع 4300 جنيه إسترليني (6200 دولار أميركي) سنوًيا.
منذ عدة أيام، قدم رئيس الوزراء السابق غوردان براون لمحة لما يمكن أن تكون عليه بريطانيا، فقد سار على أنقاض دير كاتدرائية كوفنرتي التي قصفها هتلر بالقنابل ثم صاح: «نريد أوروبا بلا معارك سوى معارك الفكر، أوروبا تحارب بالنقاش، لا بالسلاح». محدًقا في الكاميرا، طلب براون من الفلاحين أن يتولوا القيادة، لا أن يغادروا، مضيًفا: «أي رسالة سنرسلها إلى العالم، لو أننا نحن البريطانيين أصحاب انضج العقول في العالم خطونا بعيدنا عن جيراننا؟». الخبر السار في حملة الاستفتاء، هو أن المقطع المصور لبراون انتشر بسرعة البرق.
*- نقلاً عن جريدة "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة