أساس الغش هو أن التعليم انحرف عن هدفه الأساسى فى تكوين المعرفة
بالإضافة إلى الأسباب المباشرة مثل فساد بعض القائمين على الامتحانات، فإن أساس الغش هو أن التعليم انحرف عن هدفه الأساسى فى تكوين المعرفة ليصبح سلعة فى سوق تجارية ويعانى قوانين هذه السوق.
تابعت مثل الكثيرين موضوع الغش فى الثانوية العامة، بعد أن سمعت عنه الكثير ولكن يبدو أنه الآن تعدى حدوده، فلم نعرف قبل ذلك هذا المستوى من الغش وفى الثانوية العامة ـ شهادة المرور إلى كليات القمة أو حتى ما أدناها كوسيلة للحراك الاجتماعى كخريج جامعة.
أيام التلمذة منذ نحو نصف قرن كان الكثيرون فى هذا العصر يستثمرون الوقت والطاقة فيما يسمى «البرشام»، وهى عبارة عن قصاصة ورقة صغيرة جدا يقوم البعض بفسخ المعلومات الأساسية عليها ويتمنى الكثيرون أن تكون هذه هى الإجابة المطلوبة على الأسئلة التى ننتظرها فى الامتحانات، كما هو معروف الآن، كانت هذه طريقة بدائية للغش ولم يمارسها إلا عدد قليل فعلا من التلاميذ. وكما نعرف أيضا فإن عدد المجتهدين فعلا لم يقتربوا من الدرجة النهائية التى تميز المجاميع هذه الأيام. حقيقة كيف يتسنى لطالب أو طالبة أن حصل على مائة فى المائة أو حتى يتعداها فى الدرجات؟!! وبالرغم من محاولة البعض شرح هذا الأمر، فإننى لم أفهمه حتى الآن!
من الظاهر أن الغش انتشر الآن حتى يصبح ثقافة عامة ويتم التغاضى عنها بل المشاركة فيها من بعض المسئولون لأسباب عدة، وفى مقدمتها بالطبع الأسباب المالية. ولذلك وجب عدم التردد بالمرة فى تعقب هؤلاء المسئولين لاجتثاث السبب المباشر ـ فقط المباشر ـ للغش، وأن يصبح هؤلاء المسئولون مثلا عاما ليس فقط للعقاب ولكن أساسا لخيانة المسئولية وارتكاب العار وإفساد المجتمع من جذوره عن طريق إفساد شبابه ـ أى قادة المستقبل ـ ولكن يجب أن نتعدى المسئولية المباشرة فى هذا الحادث الأخير، ونهدف إلى تشخيص ظاهرة الغش نفسها من أجل مقاومتها. وصراحة لا ترتبط زيادة الغش بالتكنولوجيا. فتجربتى الشخصية تثبت أن الغش التكنولوجى هو أسهل أنواع الغش فى مواجهته، مثلا عن طريق منع الموبايلات على المائدة أو دخولها قاعة الامتحانات أصلا. المواجهة الأهم والأصعب هى مع جذور مشكلة الغش نفسها التى أسهمت فى انتشارها الكبير هذا حتى تتحول إلى ثقافة شبه مقبولة.
هناك أسباب عدة لتفاقم المشكلة: أسباب عامة أولا، أى ترتبط بثقافة المجتمع حاليا، مثل الكسب السريع وبأقصر الطرق فى عالم يسوده التنافس وتغيب فيه القواعد والمعايير الأخلاقية، بل عودة نمط «الشخصية الفهلوية» فى أقبح صورها وهى استبدال الفهلوى وخفة ظله بالهباش الذى كل مقصده هو سرقة ما يملكه الآخرون. سأركز هنا على عاملين يرتبطان مباشرة بانتشار ثقافة الغش فى التعليم:
1 ـ المسئول الأول هو نظام التعليم نفسه وأداؤه، بمعنى توجه وسلوك القائمين عليه، حتى لو تميز معظمهم بالنزاهة العلمية، فإن نظام التعليم يقوم على التلقين وليس التفكير والتحليل، وبالتالى تصبح الإجابة مجرد نسخ ونقل لسؤال روتينى وتقليدى، مع عدم الحاجة للتفكير والمنطق من جانب التلميذ، يصبح نقل النص إغراء يصعب مقاومته. ناهيك عن أن نظام التعليم الحالى تنقصه أيضا التربية، أى تمتع التلميذ مثلا بمفهوم أن الغش هو سرقة وأنه حرامى، ليس هناك أمام الغش أى رادع أخلاقى للحد من إغرائه.
2 ـ يرتبط بهذا الانتشار السريع لثقافة الغش ليس فقط تدهور التعليم العام ولكن الخصخصة المفرطة لعملية التعليم نفسها، من هذه السيطرة للدروس الخصوصية لشراء النجاح والوصول إليه بأقصر الطرق، حيث أصبح الحصول على المعرفة مثل أى سلعة فى سوق التعليم. ويبدو أيضا أن الكثير من المدارس الخاصة التى يتزايد عددها بكثافة تتهاون فى الغش، وحتى قد تشجعه فى بعض الأحيان لتثبت لأولياء الأمور «إنجازات» أولادهم وبناتهم، وهكذا تقدم مبررا مريحا للمصاريف التى تزداد باستمرار، بل وتضمن بسبب ارتفاع نسبة «النجاح» هذه زيادة الطلب عليها، وبالتالى زيادة المصاريف أكثر وأكثر، بينما مستوى التعليم الذى تقدمه لا يتحسن، بل فى الواقع يتدهور والتلميذ لا يتعلم. تحول التعليم إلى سلعة يبعده عن أساسه المعرفى ويربطه بقواعد السوق التجارية، وأهم هذه القواعد تسويقية بأية وسيلة ومنها انتشار الغش، حيث يصبح ظاهرة روتينية أى عادية، وبالتالى مقبولة، وهكذا تسهم فى أن ترفع عن هذه الظاهرة الصفة الإجرامية، قانونيا وأخلاقيا، بل تذهب أبعد من ذلك لتقويض مبدأ تكافؤ الفرص القائم على أن الإنجازات تتعادل مع المجهود المبذول من أجل الحصول عليها، وتؤدى إلى شيوع ظاهرة فقدان الأمل فى الالتزام بأبسط قواعد العمل المجتمعى، بل يصبح كل واحد يعمل لنفسه وعلى حساب الآخرين، بل ينتهى الأمر بأن يصل الغشاش إلى أعلى المناصب. وحتى إذا لم يظهر أخطاء من أصبح طبيبا أو فشل من أصبح مهندسا عن طريق الغش، ينتشر فى المجتمع مبدأ أن الغش هو وسيلة النجاح، وهكذا يصبح الغش مثالا يحتذى به لتدمير المجتمع، حتى إذا لم يتمكن الغشاش من الوصول مباشرة إلى منصب قيادى يساعده على تخريب المجتمع ومباشرة.
إذا كان هناك قضية مجتمعية يجب على لجنة الأمن القومى بمجلس النواب التركيز عليها، فهى ليست فى المقام الأول العنوسة ذات الأسباب الاقتصادية التى يمكن مواجهتها مباشرة، ولكن كارثة اجتماعية مثل ثقافة الغش وتشعباتها وتداعياتها. ألم نسمع عن وزير الدفاع الألمانى الذى استقال من منصبه منذ سنوات قليلة لأن رسالته للدكتوراه منذ أعوام مضت قامت بنسخ أجزاء دون ذكر المصدر الذى جاءت منه؟! لم يستقل الوزير فقط، ولكن أصبح على قائمة العار، لأنه غير جدير بالثقة، بل أسهم فى تدمير قيم المجتمع.
*- نقلاً عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة