«تساءلُت عما حدث في إغفاءة ساعة. لم تكن ساعة فقط على وجه اليقين. لقد نمت عصًرا كاملاً واستيقظت في عصر جديد
«تساءلُت عما حدث في إغفاءة ساعة. لم تكن ساعة فقط على وجه اليقين. لقد نمت عصًرا كاملاً واستيقظت في عصر جديد.. عدا ذلك فإننيُمفلس وُمطارد وذو حزن.
وعندما تراءيت بعيًدا تذكرت الرسالة. ولكن أدركت أيًضا أن قد فات أوان استردادها. قلت لنفسي لا يهّم، ولا يهّم في هذه اللحظة إلا الإمعان في السير. ليكن من شأنها ما يكون.
ولتكن العاقبة ما تكون. ذروة النشوة أن تتألق على جسد عّراه الإفلاس والجفاف، ولكن تنطلق إرادته بالبهجة المتحدية...».
بهذه العبارات القصيرة المتواثبة تنتهي رواية «أفراح القّبة» لنجيب محفوظ.
هل كان على التلفزيون أن يحّولها إلى مسلسل لكي نعاود الانتباه إليها، ونكتشف كم هوُمعاصر الكاتب الذي غادرنا منذ عشر سنوات؟ لقد كتبها وهو في السبعين من العمر، قبل سبع سنوات من «نوبل»، مستنًدا إلى موهبة طويلة في السرد وخبرة في نسج الحوار. يمارس روتينه اليومي في ارتياد المقاهي، ويصطاد العبارات من أفواه البشر.
عربية فصحى تصل إلى قارئها بُيسر العامّية ولا تنزع بلاغتها.
لا أحد يعرف لماذا توارت هذه الرواية وراء نصوص أشهر وأكثر رنيًنا له. أي قّبة وأي أفراح؟ إنه مجرد عنوان لمسرحيةَتِرد في السياق. وليس من الضروري البحث عن أصله وفصله. وقد كانت حلقتان من المسلسل الذي أخرجه محمد ياسين، كافيتين لانطلاق حدث فني اسمه «أفراح القّبة»، يستحوذ على انتباه النقاد، ومن نضعهم في عداد المثقفين.
يتبادلون الانطباعات الأولى ولا يتسرعون في الحكم. لننتظر ونَر.
الكل يخشى على المسلسل من أن يضيع في دهاليز المسرح الذي تجري فيه الأحداث. لماذا القلق؟ لأن النص صعب متعدد الأصوات، ولأن الحبكة تفترض الذهاب والإياب في الزمن، من دون تسلسل منطقي أو سرد متسق ومفهوم. هل سيحافظ المخرج على الإمساك المقتدر بالخيوط حتى الحلقة الأخيرة؟ عاد النقاد وفئران القراءة إلى مكتباتهم ينفخون الغبار بحًثا عن الرواية الصغيرة الصادرة قبل 35 سنة.
ومن لم يجدها سأل عنها باعة الكتب القديمة. وقرأنا أن دار «الشروق» أصدرت طبعة جديدة منها. وهناك منَنَقر بضع نقرات على الجهاز، الذي حّل محل صندوق الدنيا، وحصل على نسخة إلكترونية من أفراح نجيب محفوظ. نقرأها مستبقين الحلقات الرمضانية، وكأننا في سباق ممتع ونادر.
تحتدم النقاشات بين «الفسابكة» حوله، ويعود نجيب محفوظ إلى صباه. أكثر من عشرة ممثلين وممثلات يتقاسمون البطولة ويتنافسون في الأداء. هل كان منهم من حاول أن يسحب الغطاء إليه؟ كلهم مدهش ومتفوق على نفسه. المصري منهم والسوري والفلسطيني والأردنية.
كأنهم في مباراة جماعّية عليهم أن يكسبوها، وإلا فإن الديكور الفذ سيسرق منهم البطولة. تتحرك الكاميرا بعين شاعر، مهتدية بإنارة موّزعة في بؤر مختلفة ومناطق ظل وضوء. تأخذنا المقدمة المشغولة مثل تحفة صغيرة، وتمّر بنا على محتويات المسرح. آلة كاتبة. عوينات. سيجارة مشتعلة في منفضة. ماكنة خياطة. ثياب معّلقة. كؤوس. مرايا. شعور مستعارة. قبعات. مصباح خافت وكوب شاي. كل شيء جامد سوى البخار المتصاعد منه ومن دخان السيجارة، وأيًضا نحيب الكمان المصاحب للمشهد. موسيقى هشام نزيه. يحتاج عمل مثل هذا إلى سيناريست غير عادّي. لا يضيع في الطريق، ويأخذ المشاهدين إلى حقل الألغاز.
إن مؤلف المسرحية مجهول في الرواية الأصلية. فهل تعمد المخرج إغفال اسم السيناريست؟ نقرأ أنه لم يكتِف بهذه الرواية بل استلهم نفحات محفوظية من «همس الجنون» و«ثرثرة فوق النيل» و«اللص والكلاب»، وحتى من «زقاق المدّق». لذلك فإن مهمة محمد أمين راضي، الكاتب المفترض للقسم الأول من الأفراح، لم تكن سهلة.
ولا مهمة نشوى زايد التي استكملت الحلقات. لماذا انسحب راضي؟ هل تصادمت نظرته مع نظرة صاحب العمل؟ لعّله التعّسف الجميل لمخرج ديكتاتور يبسط نفوذه على رعاياه.َسَمًعا وطاعة!
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة