استبدال الفرنسية بالإنجليزية في التعليم يبدو مطلباً صعب التحقيق في الجزائر رغم المطالب الملحة لشريحة واسعة من الجزائريين.
تطالب شريحة واسعة من الجزائريين باستبدال اللغة الفرنسية بالإنجليزية في التعليم، فيما يبدو هذا مطلباً صعب التحقيق، ولكن الإعلان الحكومي المشترك بين الجزائر وبريطانيا عن افتتاح مدرسة للإنجليزية بالجزائر أثار موجة سرور لا تزال تتفاعل على مواقع التواصل.
يكشف هذا الموقف ظمأ يكتسح بلدا ظلت فيه الإنجليزية مهمشة لسنوات طويلة مقابل التمكين للفرنسية، لكن هذه الشريحة لا تملك الحيلة لتغيير الواقع الذي تهيمن عليه الفرنسية في التعليم والإدارة.
التلميذ الجزائري يدرس في مراحل التعليم الأولى قبل الوصول إلى الجامعة، اللغة الفرنسية 10 سنوات مقابل 7 للإنجليزية، ويبدأ تعلمه باكراً في السنة الثالثة من الابتدائية، بينما ينتظر إلى غاية السنة الأولى من التعليم المتوسط ليظفر بأول دروس الإنجليزية، والتي تبقى ساعات تدريسها في الأسبوع أقل من الفرنسية.
عند الاستفسار عن سر هذا التوجه، يطبق مسؤولو وزارة التربية الصمت، خوفاً من الخوض في موضوع يعتبرونه حساسا جدا، ويحيل كل مسؤول الإجابة إلى آخر، تماما مثلما فعل جمال شرفاوي المكلف بالإعلام والاتصال في وزارة التربية عندما طرحت عليه "بوابة العين" الإخبارية سؤالاً عن خطة الوزارة لتطوير الإنجليزية فأجاب بأنه ليس مخولا بالإجابة عن سؤال من هذا النوع.
لكن أين يكمن الإشكال في تفضيل الإنجليزية على الفرنسية؟ هل ثمة خلفيات أيديولوجية تمنع تحقيق ذلك؟ أم أن الأسباب تقنية بحتة بسبب عدم توفر المحيط الملائم لازدهار الإنجليزية؟ وهل الإرث الاستعماري الثقيل لا يزال قادراً على توجيه سياسة الدولة رغم مرور أكثر من نصف قرن على الاستقلال؟ هذه الأسئلة نقلتها بوابة "العين" الإخبارية لعدد من الأكاديميين المتخصصين في المسائل اللغوية، لمحاولة فهم الإشكالية والغوص في جذورها العميقة.
النخبة السياسية أم ثقافة المجتمع؟
يلحظ الباحث والكاتب بلكبير بومدين أن "النخبة السياسية الحاكمة في البلد بسبب رواسب الماضي وعقده وخلفياتها وتكوينها الفرانكفوني والمصالح والمنافع، أسهمت في انتشار وتعميم استعمال اللغة الفرنسية في كافة الإدارات والهيئات والقطاعات الحساسة".
يضيف: "بذلت هذه النخبة جهودا كبيرة من خلال كوادرها وموظفيها البيروقراطيين في عرقلة تقدم مسار اللغة الإنجليزية، والوقوف في كل ما من شأنه ترقية استعمالها، فعلى سبيل المثال لا الحصر تم الوقوف كحجر عثرة أمام كل المبادرات لفتح مدارس ثانوية باللغة الإنجليزية، ولم تمنح وثائق وتصاريح الاعتماد للمدارس الدولية التي تدرس بالإنجليزية في الجزائر".
هذا الرأي يخالفه إسماعيل مهنانة، أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة، فهو يرى بأن الأمر يتجاوز الإرادة السياسية لأن المجتمع لم يحسم الكثير من أسئلة الهوية والتاريخ والانتماء التي لا تزال تلقي بثقلها على المسألة اللغوية في الجزائر.
ويتابع مهنانة: "في الجامعة مثلاً والتي يجدر أن تكون قاطرة المجتمع نحو الانفتاح على اللغة الإنجليزية بوصفها لغة العلم والبحوث الأكاديمية، نلاحظ أنها لا تزال منقسمة بين الشُّعَب الأدبية والعلوم إنسانية التي تُدرّس باللغة العربية وبين الشُّعب العلمية والتقنية التي تدرّس بالفرنسية".
تغيير مكلف
زاوية أخرى يلمح منها الكاتب والناقد الأدبي لونيس بن علي المسألة، ففي اعتقاده يصعب الخروج من اللغة الفرنسية، لأنّ ذلك يحتاج إلى شجاعة سياسية أولا، وثانيا، لأنّ تعميم اللغة الإنجليزية ليس مجرد إحلال لغة مكان لغة، بل سيفرض ذلك تغييرات بنيوية في البرامج التعليمية، وفي العقليات كذلك، فلا يعقل مثلا أن تحلّ اللغة الإنجليزية مكان اللغة الفرنسية في حين أن البرامج التعليمية مازالت مرتبطة بالمنظور التربوي الفرنسي.
أسباب عملية
عند إيناس نجلاوي، أستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة تبسة، الأمر مختلف، ففرض الإنجليزية كلغة أولى بقرار فوقي سيصطدم لا محالة بعوائق تقنية تجعله غير قابل للنجاح، فهذه اللغة غير متداولة في الشارع الجزائري، ما يعني أن طالبها لا مجال أمامه لسماعها في حياته اليومية أو التكلم بها خارج المعهد.
وتضيف في سرد أسبابها بأن "بريطانيا العظمى مازالت تعتبر الجزائريين في قائمة غير المرغوب بدخولهم، لذا فإن الموافقة على تأشيرة في إطار دراسة اللغة أمر صعب جدا وضع إليه غلاء المعيشة هناك لذا تجد أستاذ اللغة الإنجليزية يذهب إلى فرنسا في إطار التربص قصير المدى ولا يمكنه الذهاب إلى إنجلترا".
وعي عند الشباب
هذا الواقع لم يمنع من بروز وعي لدى الجزائريين في ضرورة تعليم أبنائهم الإنجليزية، ما أدى إلى مدارس خاصة تعنى بتعليم هذه اللغة وافتتاح أقسام لتعلم الإنجليزية بالمركز الثقافي البريطاني بأسعار تبقى في غير متناولهم جميعا، لكن الاستثمار في هذه اللغة تحول لخيار استراتيجي لكثير من الأولياء.
كما تجلى هذا الوعي في ظهور فيديوهات على "يوتيوب" تنتقد وضع الإنجليزية في الجزائر، وتطالب بتحسين المناهج التعليمية من أجل تسهيل تلقينها للتلاميذ.
وفي أحد الفيديوهات التي حصدت 2.6 مليون مشاهدة، يقول شاب جزائري إنه محتار "كيف أننا في الجزائر نتعلم الفرنسية قبل الإنجليزية رغم أن الأولى لا يتكلم بها إلا في 3 بلدان أما الثانية فهي لغة العالم بأسره".
الاهتمام الشعبي خاصة لدى الشباب بالإنجليزية انتقل إلى قبة البرلمان الجزائري، فقد طالب مجموعة من النواب باعتماد الإنجليزية لغة أجنبية أولى بدل الفرنسية، ووصل صدى ذلك إلى وزيرة التربية نورية بن غبريط التي كانت إجابتها واضحة، بأن القانون التوجيهي الذي يحكم قطاع التعليم في الجزائر فصل في اللغة الأجنبية التي تكون الأولى، وهذا القانون وقعه الرئيس بوتفليقة في سنة 2008، في إطار الإصلاحات التي أمر بإجرائها في هذا القطاع.
تصريح الوزيرة بن غبريط، يؤكد بالنسبة لمسعود بوديبة، الناطق الرسمي باسم مجلس أساتذة التعليم الثانوي والتقني، أحد أهم نقابات التعليم بالجزائر، أن اعتماد الفرنسية كلغة أولى يعبر عن توجه دولة، وبالتالي يظل استبدال الفرنسية بالإنجليزية في التعليم، برأيه، مطلبا مستحيلا في الظرف الراهن مع بقاء نفس المسؤولين على رأس قطاع التعليم.