ماذا لو كان القاتل مسلماً؟ أتصور أن الوضع كان سيختلف كلياً، إذ سينتقل التركيز في هذه الحال إلى الفاعل
مساء الخميس الماضي، تعرضت النائب العمالية البريطانية جو كوكس لإطلاق نار، ليُعلن عن موتها بعد نحو سبع ساعات. واتضح أن القاتل من مناهضي موقفها المؤيد لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. ووفقاً لما رصدتُه بشكل شخصي طوال الساعات الثماني التي تلت الحادث، لم تحاول أي وسيلة إعلامية نقلت الخبر أن تتوقف كثيراً أمام التفاصيل التي تخص الفاعل، واكتفت بما تلقته من معلومات أولية حول اعتقال رجل خمسيني على صلة به.
ماذا لو كان القاتل مسلماً؟ أتصور أن الوضع كان سيختلف كلياً، إذ سينتقل التركيز في هذه الحال إلى الفاعل، وستشهد الساعة الأولى تدفق مئات التحليلات والآراء من كل مكان في العالم، يغرق معها المشاهدون في تفاصيل تستعيد الحوادث الإرهابية التي تورط فيها مسلمون منذ عشرات السنين، وتُتداول فيها سيرة تنظيمات يجمع بينها أنها تتضمن «الإسلام» كجزء من أسمائها، وسيتبارى المتخصصون في تبيان الفروق بين الأسلوب المميز لكل جماعة في ارتكاب جرائمها الوحشية، والأصول الفكرية لهذه الجماعات متمثلة في القرآن والسنة والتراث الفقهي والشرعي. باختصار، سيكون الإسلام حاضراً في كل ما يتعلق بالجريمة، وحتى الذين يرفضون ربط الإسلام بالإرهاب يُصبحون جزءاً من هذه المنظومة، إذ يتحقق التلازم بين الإسلام والإرهاب حتى في حديث الرافضين، ويستدعي كلٌّ من المفهومين الآخر في عقول المتلقين.
في هذا الإطار يمكن أن ننظر إلى حادثة أورلاندو، التي أدت إلى سقوط نحو 50 قتيلاً ومثلهم تقريباً من الجرحى. ولا جدال في بشاعة الحادثة ووحشيتها، وهو أمر لا يمكن لعاقل أن يشكك فيه، لكنه اتخذ منذ اللحظة الأولى منحى خاطئاً وتبسيطياً بنسبته إلى الدوافع الإسلامية من دون سواها، ولم تكن هناك أي فرصة لرؤية الحادثة في سياقات أخرى مرتبطة بها، تتصل بطبيعة المجتمع الأميركي وقضاياه السياسية والاجتماعية والتشريعية. ومن بين هذه السياقات، على سبيل المثال، حوادث إطلاق النار العشوائية التي تنتشر في معظم الولايات الأميركية بمعدلات مرعبة.
إن مراجعة موقع «أرشيف عنف البنادق» Gun Violence Archive، وهو يرصد بدقة حوادث إطلاق النار في مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، يقدم أرقاماً مذهلة عما تشهده من حوادث من هذا النوع. ويضع الموقع جداول زمنية تفصيلية لحوادث إطلاق النار، ومن بينها جدول يتم تحديثه عن الساعات الـ72 السابقة. وفي مساء الخميس كان جدول الساعات الـ72 يفيد بوقوع 268 حادثة إطلاق نار في مختلف الولايات الأميركية، سقط فيها 61 قتيلاً، و144 جريحاً، أي أن عددهم يزيد على عدد قتلى حادثة أورلاندو، ولم تستقطب هذه الحوادث العادية أي اهتمام، فيما زُلزل العالم على وقع حادثة أورلاندو وما تُنذر به من شرور.
لا شك في أن هناك فوارق كبيرة بين حادثة أورلاندو وحوادث إطلاق النار الوارد ذكرها، لكن القصد أن سياق إطلاق النار هو أحد السياقات التي يمكن رؤية الحادثة من خلالها. وحوادث إطلاق النار العشوائية التي يسقط فيها عدد كبير من القتلى أمر مألوف في الولايات المتحدة. وحين وقع حادث إطلاق نار في كاليفورنيا في 2 كانون الأول (ديسمبر) 2015، قُتل فيه 14 شخصاً في مركز للمعوقين في سان برنادينو، ونفذه سيد رضوان فاروق وزوجته، قالت صحيفة «واشنطن بوست» إنه الحادث رقم 355 من نوعه منذ بداية عام 2015، أي أنه كانت سبقته 344 حادثة إطلاق نار عشوائي سقط في كل منها عدد من القتلى، ولكن أيّاً منها لم يُلقَ عليه الضوء مثلما ألقي على حادثة كاليفورنيا. وفي كل الحوادث السابقة لم يُعرَّف أي من الجناة بدينه أو بالطائفة التي ينتمي إليها، أما في حال سيد رضوان فكان إسلامه هو العنصر الأهم في تعريفه، ولم يعد الشخص وحده هو المتهم، بل إن دينه أصبح متهماً معه أيضاً. وكأن هناك إصراراً من البعض على أن أي جريمة يقوم بها مسلم هي عمل إرهاب يتم تنفيذه بدافع ديني، وليس مجرد جريمة بدافع فردي.
للأسف، فإن هذه الحجج والبراهين التي تقوم على أسس منطقية ليست مُقنعة لجمهور عالمي كبير يقتات منذ وقت طويل على الآراء التي تغذي النظرة الاتهامية للإسلام ومعتنقيه، وتسعى إلى جعل الإسلام مرادفاً للإرهاب. وتضيع سدى كل الصيحات العقلانية حتى لو كان من يطلقها أشخاص بوزن الرئيس الأميركي باراك أوباما أو الزعماء والقادة الأوروبيين الذين أكدوا في كل المناسبات احترامهم للإسلام كدين، وأنه يدعو إلى التسامح والمحبة والسلام. وكل تصريح متعقل تواجهه سيولٌ عارمة من تصريحات تُذكي مشاعر الخوف والتشكك، وتحرك أسوأ غرائز الكراهية مستندة إلى قصف فكري مركز تُستخدم فيه وسائل متطورة لبرمجة العقول على النحو الذي يُراد لها.
عدالة القضية ومنطقيتها ليست ضامناً لاقتناع الناس بها للأسف، خصوصاً مع الأخطاء والمشكلات التي تجعل المسلمين طرفاً يحمل القابلية للاتهام، بما يطفو على سطح المجتمعات والدول الإسلامية من ممارسات يجري استغلالها بدأب وحرفية من أجل تثبيت صورة الكراهية للإسلام والمسلمين. وللأسف يحدث ذلك في كل مرة، وحدث أيضاً بعد هجوم أورلاندو الأخير.
لقد حفلت وسائل التواصل الاجتماعي بردود فعل من كثير من العرب والمسلمين تتضمن إشادة بمنفذ الحادثة، وبشجاعته في مواجهة «الفجور»، أو على الأقل تبرر فعلته وتتعاطف معها بدرجة أو بأخرى. كما أن تنظيم «داعش»، وكما عودنا دائماً، لم يفوت الفرصة لتبني الحادثة، اعتقاداً منه بأن قتل أي «كافر» يُمثل نصراً للإسلام الذي يدعي التنظيم زيفاً أنه يحمل رايته، وأن إضافة أي حادثة إلى سجل «بطولاته» ستسهم في تعزيز قوته، والتي، للأسف، أسهمت دوائر إعلامية وأمنية غربية في تضخيمها لغاية في نفسها. ولا شك في أن مثل هذه الاستجابات تمنح الراغبين في تشويه صورة الإسلام والمسلمين فرصة ذهبية في وقت تلتهب فيه المشاعر في الولايات المتحدة تعاطفاً مع الضحايا، وكراهية للإرهاب ولكل من لا يدينه بأوضح العبارات. وتكفي ترجمة بعض ردود الفعل هذه من دول عربية وإسلامية مختلفة ليتحول موقف الرأي العام الأميركي والغربي إلى عداء مطلق لكل ما عربي وما هو إسلامي، وهو ما سينعكس بالضرورة في السياسات المُتَّبعة إزاء العرب والمسلمين. وعلى اعتبار أن الضرر سيشمل الدول العربية والإسلامية، فإن من الضروري وضع وتفعيل القوانين التي تُجرِّم تأييد الأعمال الإرهابية أو تروج لها، ومن الضروري كذلك إدانة كل ما يقوم به «داعش» في أي بقعة من بقاع الأرض، داخل البلاد العربية والإسلامية أو خارجها، فما يقوم به هذا التنظيم من إرهاب وحشي لا يمكن لأي عاقل إلا أن يدينه ويندد به.
حين وقعت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، استُغلت بعض ردود الفرح من جانب أفراد أو مجموعة لا تزيد على العشرات لـ«شيطنة» العرب والمسلمين جميعاً. وها نحن اليوم بعد 15 عاماً لا نزال ندفع ثمناً باهظاً، وسقط مئات الآلاف من القتلى من العرب والمسلمين منذ هذا اليوم المشؤوم، وتفككت دول عربية وتناثرت أشلاءً، ويقف الجميع اليوم على برميل من البارود يمكن له أن ينفجر في أي لحظة. وكل ما نشهده من مآسٍ في الوقت الحالي يمكن إعادة جذوره إلى 11 سبتمبر 2001، الذي لم يكن كارثة للولايات المتحدة الأميركية بقدر ما كان طامة كبرى علينا، فتحت أبواب الشر على اتساعها.
للأسف، فإن لكل جريمة إرهابية ثمناً فادحاً لن يستثني عربياً أو مسلماً، لذا فإننا – العرب والمسلمين - نحتاج أكثر من الغرب إلى أن نواجه الإرهاب ومصادره جميعاً بكل حزم وقوة، وأن يعتبرها كلٌّ منا معركته الشخصية، بعد أن اتضحت فداحة تداعياتها على استقرارنا وأمننا. ولا يجب أن تُترك هذه المهمة للحكومات وحدها، لأن أي عربي أو مسلم يتمتع بنصيب من العقل والفهم سيجد أنه شخصياً تحمل جزءاً من كلفة الإرهاب، وأن حياته وحياة كثير ممن يحبهم كان يمكن لها أن تكون مفتوحة على آفاق أوسع وأفضل لو لم تنفلت شياطين الإرهاب، و»داعش» في مقدمها، من عقالها على النحو الذي رأيناه.
*- نقلاً عن جريدة "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة