لم يكن الغرب قد أتم ثورته الصناعية, باستثناء بريطانيا وفرنسا, ولم يكن قد عرف بعد السيارة أو التليفون أو الراديو أو آلة التصوير
نحن أمة مقلدة منذ ما يزيد علي مائة وخمسين عاما, فمنذ منتصف القرن التاسع عشر, اعتدنا أن ننظر الي الدولة الصناعية في الغرب( التي كنا نسميها الأمم الراقية) لنري ما تفعل ثم نفعل مثلها, دون أن نضيف شيئا ذا بال, بل وأحيانا دون أن نفهم الفائدة المقصودة من هذا الفعل ابتداء, ومن ثم كثيرا ما بدا منظرنا كمنظر القرد الذي رأي قبعة ملقاة علي الطريق فارتداها.
كان هناك بعض التقليد قبل منتصف ذلك القرن, ولكنه كان في حدود ضيقة للغاية, كانت الحملة الفرنسية علي مصر في أواخر القرن السابق قصيرة العمر, لم تزد علي ثلاث سنوات, ولم يتعد اتصال الفرنسيين بالمجتمع المصري شريحة صغيرة جدا من المصريين, فلما جاء محمد علي, وقد حكم مصر ما يقرب من النصف الأول بكامله من القرن, أراد أن تصبح مصر دولة مستقلة, صناعيا وزراعيا وعسكريا, فوضع القيود الصارمة علي الاستيراد, وبدلا من سلع الاستهلاك استورد الخبراء, أضف الي ذلك أن الفارق بيننا وبين الدول الصناعية قبل منتصف القرن التاسع عشر, في نمط المعيشة ومتوسط الدخل, كان أقل بكثير مما أصبح بعد ذلك.
لم يكن الغرب قد أتم ثورته الصناعية, باستثناء بريطانيا وفرنسا, ولم يكن قد عرف بعد السيارة أو التليفون أو الراديو أو آلة التصوير أو السينما..الخ, ولم تكن عادة قراءة الصحف قد ترسخت عندهم ولا عندنا, وهناك صور مرسومة للخبراء الفرنسيين المقيمين في مصر في عهد محمد علي وهم يرتدون نفس الملابس التي كنا نرتديها, وقد جلسوا لتناول نفس الطعام الذي نأكله.
لم يعد الأمر كذلك بعد1850, فقد تغيرت أحوال الدول الصناعية بسرعة, كما تغير نوع الولاة والحكام الذين حكموا مصر منذ ذلك التاريخ, تضاعفت قدرة الغرب علي الإنتاج, بينما جاءنا حكام ذوو ميل قوي الي استهلاك السلع الغربية, اتسع الفارق بيننا وبينهم في معدلات النمو, كما زاد عدد القادمين منهم للإقامة بيننا, جالبين معهم أنماطا جديدة للاستهلاك, حتي جاء الاحتلال, فأصبحت هذه الأنماط أكثر جاذبية لمجرد أنها أنماط حياة شعوب أقوي منا عسكريا وأشد سطوة, فارتبطت هذه الأنماط الاستهلاكية في الأذهان بالنجاح والقوة, ومن ثم بالرقي والتقدم.
ومع ذلك لم تغب الحقيقة عن بعض المصريين الأكثر يقظة والأشد فطنة, فكتب عبدالله النديم مثلا, في مجلته التنكيت والتبكيت, في ثمانينيات القرن الماضي, مقالا بعنوان عربي تفرنج, قال فيه: ولد لأحد الفلاحين ولد, فسماه زعيط, وتركه يلعب في التراب وينام في الوحل, حتي صار يقدر علي تسريح الجاموسة, فسرحه مع البهائم إلي الغيط.. فلما أتم العلوم الابتدائية, أرسلته الحكومة إلي أوروبا.. فبعد أربع سنين ركب الوابور وجاء عائدا إلي بلاده, فمن فرح أبيه حضر إلي الإسكندرية.. قرب أبوه ليحتضنه ويقبله, شأن الوالد المحب لولده, فدفعه في صدره, وجري بينهما هذا الحوار:
زعيط: سبحان الله! عندكم يا مسلمين مسألة الحضن دي قبيحة جدا.
معيط( أبوه): آمال يابني نسلم علي بعض إزاي؟
زعيط: قل بون أريفي(Boonearrivee), وحط ايدك في ايدي مرة واحدة.. وخلاص...
كما كتب محمد المويلحي في بداية القرن العشرين قصته المشهورة( حديث عيسي بن هشام), سخر فيها أيضا مما بدا يشيع بين المصريين من ضعف التمييز بين ما يجوز تقليده وما لا يجوز.
لم يتغير الأمر كثيرا طوال القرن العشرين, وإن كانت قد ضعفت قدرتنا علي ملاحظته لمجرد أنه أصبح أكثر شيوعا وأشد رسوخا, أدخلنا جهاز التليفون مثلا في أوائل القرن, وكلنا استخدمناه في الثرثرة أكثر مما استخدمناه في إنجاز الأعمال بسرعة, وهو ما كان الهدف من اختراعه, مما أثار سخرية لاذعة من الشيخ عبدالعزيز البشري في كتاب قطوف( في ثلاثينيات القرن الماضي), وأدخلنا الراديو ثم التليفزيون, ولكننا استخدمناهما لترويج السلع الاستهلاكية التي ينتجها غيرنا, فلم يختلف منظرنا في الحقيقة عن منظر القرد والقبعة الذي سبق ذكره, ولكننا لم نعد نلاحظ الجانب المضحك والمأساوي فيه.
لقد حاولنا مرتين أو ثلاث مرات خلال المائة والخمسين عاما الماضية, أن نسلك سلوكا مختلفا, فتعرضنا للضرب في كل مرة, تأديبا لنا وتنبيها بألا نحاول تكرار المحاولة مرة أخري, كان الخديو إسماعيل مفتونا بالغرب, ولكنه ظن أنه من الممكن أن يجعل مصر قطعة من أوروبا بطريقته, فشيد بعض المصانع, وجرب إدخال الديمقراطية, وحاول إصلاح التعليم, فأصر دائنوه في الغرب علي عزله فعزل, وجرب طلعت حرب ثم عبدالناصر أن يبنيا صناعة مستقلة والاستغناء عن الواردات, فأصر المصدرون والمستثمرون في الغرب علي ضرب هذه المحاولة في1967, مستخدمين إسرائيل التي كانت كارهة لما نفعله لأسبابها الخاصة, ونجحوا في ذلك, ولم تتكرر المحاولة منذ ذلك الحين.
لقد كتب المفكر السوري جورج طرابيشي, الذي رحل عنا منذ أسابيع قليلة, يوجه لوما شديدا الي بعض الكتاب( وأنا منهم), الدائمي الشكوي من تقليد الغرب, ويصورون الغرب وكأنه المسئول عن فشلنا وتخلفنا, وأطلق عليهم وصف( المرضي بالغرب), ولكن الذين يشكون مثلي من التقليد الأعمي للغرب لا يضعون المسئولية كلها بالضرورة علي الغرب عن فشلنا وتخلفنا, فالمسئولية بلا شك مشتركة, أما المرضي بالغرب الحقيقيون فهم هؤلاء المقلدون للغرب تقليدا أعمي, وليسوا من يشكون من هذا التقليد ويدعون الي الاقلاع عنه.
في أثناء ذلك لم ينقطع الغرب عن التقدم المستقل, فأبدع مختلف أنواع السلع والخدمات الجديدة, فأضاف الي الراديو والتليفزيون, أجهزة الفيديو والمحمول وشبكات الاتصال التي جعلت من العالم, أكثر من أي وقت آخر, قرية كبيرة واحدة, ودخلنا ما سمي عصر العولمة, فكان لابد أن يصل إلينا ما سمي المجتمع الاستهلاكي الذي بدأ يشيع في الغرب منذ أواخر الستينيات, وقد كان لهذا المجتمع الاستهلاكي سيئاته عندنا وعندهم, ولكن الذي حدث, كما يجب أن نتوقع, أن هذه الظاهرة أصبح لها في بلادنا سمات قبيحة للغاية تفوق أي شيء رأيناه خلال القرن ونصف القرن السابقين من تقليد الغرب, إذ فاق هذا التقليد هذه المرة أي تقليد سابق, سواء في جدارته بإثارة السخرية أو الحزن, وسواء تعلق الأمر بمن كانت لديهم القدرة الشرائية علي ممارسة عادات المجتمع الاستهلاكي, أو بمن عجزوا عن ذلك, مما يتطلب المزيد من الشرح والتوضيح.
*- نقلاً عن جريدة "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة