ليس صدفة أن تكون الفلوجة، منذ سقوط بغداد، مركز استهداف للاحتلال الأمريكي، والميليشيات الطائفية التي ترتبط بها
ليس صدفة أن تكون الفلوجة، منذ سقوط بغداد، مركز استهداف للاحتلال الأمريكي، والميليشيات الطائفية التي ترتبط بها. فقد عرفت هذه المدنية تاريخياً، بانتمائها العربي، ورفضها المستمر للتدخلات الخارجية. والمدينة هي جزء من محافظة الأنبار، وتشكل مع مدينة الرمادي، أهم مدينتين بالمحافظة. وقد عرفت بدورها الريادي في ثورة العشرين، ضد الاحتلال البريطاني، حيث شارك قادة العشائر ورجال الدين في تلك الثورة، التي انتهت إلى إعلان استقلال العراق.
وحين جرى الاحتلال الأمريكي للعراق، عام 2003، قاوم أبناء الأنبار، وعلى رأسهم مدينة الفلوجة مشروع الاحتلال، ورفضوا العملية السياسية الطائفية التي هندس لها السفير الأمريكي، بول برايمر، ودعمتها بقوة حكومة طهران. وبسب ذلك، تعرضت المدينة، إلى حصار قاس، وقصف جوي عنيف. هجر سكانها، وسويت مساكنها بالأرض. لكن إرادة الحياة لدى أبناء هذه المدينة الباسلة، مكنتهم من إعادة بنائها. وبقي سكانها شأن جميع سكان الأنبار، يرفضون الاحتلال، وإفرازاته، ويتحدون مشاريع التقسيم.
وليس من شك في أن ما تعرض له الشعب العراقي من ظلم وجور، وقتل على الهوية، وتدمير واضح للدولة العراقية، ومصادرة كيانها الوطني، إضافة إلى قرار حل الجيش العراقي، وتزامن ذلك مع ما عرف باجتثاث البعث، قد أدى إلى معاناة أكثر من عشرة ملايين من العراقيين، تشرد قرابة ستة ملايين منهم خارج العراق، وصمدت البقية الباقية، تحت نيران التسعير الطائفي.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الجيش العراقي، تجاوز تعداد أفراده، في ظل الدولة الوطنية، التي سادت حتى احتلال بغداد، أكثر من مليون شخص، يتوزعون، على الجيش الرسمي، وكتائب بمسميات مختلفة، كالحرس الجمهوري والجيش الشعبي، وفدائيي صدام. وإذا ما أخذنا النسبة المنطقية والمعقولة لعدد أفراد العائلة العراقية الواحدة وقدرناها بخمسة أفراد: زوج وزوجة وثلاثة أطفال، فإن ذلك يعني أن خمسة ملايين شخص، باتوا يعانون الفاقة والجوع والحرمان. يضاف إلى هذا العدد ممن شملهم قرار الاجتثاث، ويعدون بمئات الألوف من الأفراد، أمكننا معرفة حجم الكارثة التي تعرض لها العراقيون.
إن ظروف المحنة القاسية، وتغول الميليشيات الطائفية التي فتحت الأبواب على مصاريعها لحركات التطرف، كال»قاعدة» و»داعش»، حيث وجدت في حالة الغضب والاحتقان التي عاناها العراقيون أرضاً خصبة. وهكذا تواجدت هذه التنظيمات المتطرفة، في أكثر المحافظات معاناة وقهراً، نتيجة للتدخلات الإيرانية. ذلك ليس تبريراً لما جرى، بل هو محاولة لوعي تسلسل الأحداث، ووضعها في سياق موضوعي وتاريخي صحيح.
من جهة أخرى، لم تر إيران في وجود «القاعدة» و»داعش» في المراحل الأولى للاحتلال، شيئاً سلبياً، بل وجدت فيه فرصة للضغط على الوجود العسكري الأمريكي في العراق، لكي ينسحب نهائياً منه، ولكي يأتي دورها السياسي، في هذا البلد العريق في مرحلة لاحقة.
انسحب الأمريكيون من العراق، بعد وصول الرئيس الأمريكي باراك أوباما لسدة الحكم. وانقلب السحر على الساحر. فأبناء الأنبار الذين تصدوا بصدورهم العارية للاحتلال الأمريكي، لم يقوموا بذلك من أجل خاطر طهران، بل لضمان استقلال وحرية بلادهم. فقد تواصل نضال العراقيين، من أجل مواجهة إفرازات الاحتلال، وعمليته السياسية.
ومرة أخرى، شهدت الأنبار، وعلى رأسها مدينة الفلوجة غلياناً شعبياً واسعاً، ورفضاً للميلشيات الطائفية وللتدخلات الإقليمية. ووجد «داعش» وأخواته مناخاً ملائماً للعمل في هذه المحافظة. كما وجد فرصته أيضاً في العمل، في محافظات نينوى وصلاح الدين وبعقوبة.
وقبل سنتين من هذا التاريخ، تمكن «داعش» بمساعدة العشائر العراقية من الإطباق على المحافظات العراقية الأربع التي أشرنا إليها. وكان الأبرز في هذا الحدث هو سقوط مدينة الموصل، التي تعتبر المدينة الثانية في العراق، بعد بغداد، بيد «داعش».
في حمأة المواجهة بين الشعب العراقي، وبين الميليشيات الطائفية، وبشكل خاص ما يجري من مواجهات في الأنبار ونينوى وصلاح الدين وبعقوبة، اختلط الحابل بالنابل. وباتت تهمة الانتماء «لداعش» جاهزة، توجه بسهولة إلى كل من يرفض سياسات طهران، والحكومة المتنفذة في بغداد.
لماذا تم اختيار الفلوجة دون غيرها، للهجوم عليها من قبل ما يعرف بالحشد الشعبي، وجيش العراق، وتركت الموصل، التي تحمل عودتها لسلطة المركز بعداً سياسياً أثقل بكثير من احتلال الفلوجة؟ الإجابة عن هذا السؤال تعيدنا مرة أخرى، لخريطة العراق، وموقع محافظة الأنبار في هذه الخريطة.
تقع الأنبار في الجزء الغربي من العراق، وهي أكبر محافظة فيه، حيث تعبر من جنوب العراق إلى شماله. والطريق من بغداد إلى دمشق يمر عبرها. وعلى هذا الأساس، فإن خروج محافظة الأنبار عن سيطرة الدولة العراقية، يجعل منها مانعاً برياً، يحول دون ربط بغداد بدمشق، والوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، عبر الأراضي السورية، انتهاء بجنوب لبنان.
لهذه الأسباب، بدأت ما عرفت بحرب تحرير المدن العراقية من «داعش»، بالفلوجة وليس بالموصل. وفي هذه الحرب ارتكبت جرائم، وأمام صمت مريب من المجتمع الدولي بأسره. وليس لهذا الشعب المظلوم سوى رحمة الله تعالى ولطفه. ولن يكون مقبولاً استمرار الصمت، والتفرج على احتراق مدينة الفلوجة الباسلة.
*- نقلاً عن صحيفة "الجريدة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة