أسباب كثيرة أدّت وتؤدّي إلى انفصال أوطان ومجتمعات بعضها عن بعض آخر. وهي أسباب قد لا تستطيع تجنّبَها بلدانٌ عريقة في وحدتها
أسباب كثيرة أدّت وتؤدّي إلى انفصال أوطان ومجتمعات بعضها عن بعض آخر. وهي أسباب قد لا تستطيع تجنّبَها بلدانٌ عريقة في وحدتها، خصوصاً مع عصف الهويّات الصغرى لزمن العولمة، وبعد انتهاء الحرب الباردة التي شكّلت لعقود ضامناً دوليّاً يصون بقاء الدول على ما نشأت عليه.
لكنّ المشرق العربيّ يعيش، فضلاً عن الأسباب المذكورة أو كتعبير حادّ عنها، اندفاعاً في العنف يكفي بذاته لأن يفضّ أيّة وحدة بين ممارس العنف ومتلقّيه.
فسوريّة صارت مثالاً صارخاً عن انحطاط العلاقات الأهليّة عبر سلوكات من البطش الذي لا يترك أيّة فسحة لمستقبل جامع. وبدورها تُجمع التقديرات على أنّ باب السياسة والتسويات مغلق حتّى إشعار آخر فيما أبواب الموت مشرعة على مصاريعها. وهذا إنّما يأتي تالياً على تفاوت وتباعد وتذرير، ممّا استمرّ عشرات السنين نهجاً رسميّاً مصحوباً بكبت «قوميّ» لتعبيراته جميعاً.
والعراق ليس أفضل حالاً، إن لم يكن أسوأ. فهناك تتصدّى جماعات لـ «تحرير» مناطق بكاملها من جماعاتها. وبالتعاون مع أطراف خارجيّة، هي نفس تلك التي يعتمد عليها طاغية دمشق، يُصار إلى إنزال العقوبة الجماعيّة بالجماعات المغزوّة والمَسبيّة التي تجد خلاصها في النزوح.
أمّا لبنان، ومن دون أن يعيش أوضاعاً كهذه، فيعاني على نحو كامن تناقضات من صنف وجوديّ. ذاك أنّ الطرف القويّ والقادر فيه يطرح على باقي السكّان خيار التحوّل إلى دولة أخرى واجتماع آخر. وأغلب الظنّ أنّ غياب طرف يملك القدرة على اعتراض الطرف الأوّل هو ما يضمن السلام الظاهريّ القائم.
وأوضاع كهذه، لا تُطاق في أيّ من البلدان المذكورة، تلتقي عند سبب مشترك لم يعد مفيداً تجنّب ذكره أو تجميل شكله «حرصاً على التعايش الوطنيّ» الذي لم يبق منه ما يُذكر!
ففي سوريّة تبدّى أنّ النظام القائم يفضّل تحويل البلد إلى مقبرة على مشاركة أكثريّة السوريّين بعضاً من سلطته. والأمر نفسه يقال في العراق حيث حلّت، منذ 2003، سيطرة طائفيّة جلفة محلّ سيطرة طائفيّة كانت أقلّ جلافة. أمّا لبنان فمحكوم ببقاء بندقيّة المقاومة إلى ما شاء الله، مع ما يترتّب على ذلك في الاقتصاد والحياة العامّة واستجلاب المخاطر من الخارج.
وهذا سلوك تلتقي فيه نوازع عدّة. فهناك، فضلاً عن النازع الانقلابيّ الذي يطيح علاقات وتوازنات وأعرافاً، نازع الاستئثار الكامل بالسلطة ومنافعها، ولكنْ أيضاً بالحقيقة التي ترفض كل شراكة فيها. وإذ يحيل هذا الاحتكار للحقيقة كلّ مُطالب بالشراكة متآمراً وجاسوساً و»داعشيّاً»، فإنّه يجيز لنفسه امتلاك لساني السلطة والمعارضة في آن: فهو، بيدٍ، يصدّ المتآمرين والعصاة الداخليّين، بينما باليد الأخرى، يواجه الهجمة الخارجيّة للأطراف الأقوى. وبهذا فإنّ أفعاله تنطوي على احتلال كلّ جبهات اللغة والمعنى. وهناك بالتأكيد نازع استعماريّ يتوّجهُ تصدير فائض العنف الذي تنتجه سلطة تنتهك حرمات المجتمعات الأهليّة وسرديّاتها عن نفسها وتجاربها، فضلاً عن نزع كلّ أنسنة عن أحزانها ومعاناتها. وهذا نوع من استعمار لا تصحبه فوائد الاستعمار الكثيرة الأخرى.
وقد يقال إنّ هذا الجشع المطلق في طلب السلطة واحتكارها وإحراق الأرض في سبيل البقاء عليها مردّه إلى افتقار تاريخيّ لكلّ سلطة وكلّ تمكّن. ففائض السلطة اليوم هو فائض التهميش السلطويّ في الماضي، إنّما على نحو مقلوب، وبالتالي فإنّ الخوف من الآخر الأكثريّ واستعادة زمنه هو ما يمليه ويتحكّم به إلى درجة بعيدة. لكنّ هذا الحكم، بغضّ النظر عن مدى صحّته، سبب إضافيّ للقول باستحالة العيش المشترك واستحالة البقاء في استثناء مضادّ لطبيعة الأشياء، يتوهّم التغلّب عليها بالقتل المحض.
*- نقلاً عن جريدة "الحياة".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة