لم يكن وصول التيار الإسلامي الحالي إلى السلطة في تركيا المحاولة الأولى، فقد سبق وصول حزب «العدالة والتنمية» محاولات عدة.
لم يكن وصول التيار الإسلامي الحالي إلى السلطة في تركيا المحاولة الأولى، فقد سبق وصول حزب «العدالة والتنمية» محاولات عدة، أهمها محاولة نجم الدين أربكان بمسميات أحزابه المختلفة؛ «السعادة» و «الفضيلة» و«الرفاه»، وكلها كانت تصطدم بالتيار العلماني الذي يعارض وصول تيار ديني إلى السلطة.
وحين جاء رجب طيب أردوغان الخارج من عباءة أربكان، بدأ مع حزب «العدالة والتنمية» خطوات مدروسة، واستعان بشخصيات مقبولة، مثل عبدالله غُل رئيسًا للجمهورية، بينما تمت تسوية بعض الأمور القضائية التي تتعلق بأردوغان، ما مهّد وصوله إلى سدة الرئاسة في مرحلة لاحقة.
وضع «العدالة والتنمية» برنامجًا طموحًا وعمل عليه، وظهر وزير الخارجية السابق رئيس الوزراء الحالي أحمد داود أوغلو واحدًا من المنظرين والمفكرين لتركيا «العدالة والتنمية»، وأصدر عددًا من الدراسات العميقة التي ترجمت إلى العربية وغيرها، واشتهرت نظريته «تصفير المشكلات» مع دول الجوار، وتقرب الحزب من المحيط العربي والإسلامي بمحاولة تبني القضية الفلسطينية، وكانت حادثة السفينة «مافي مرمرة» التي أرادت كسر الحصار عن غزة، والصدام المباشر مع السياسة الإسرائيلية سببًا في رفع أسهم «العدالة والتنمية» عربيًّا وإسلاميًّا، وهلّل الكثيرون يومها لسجال أردوغان مع شمعون بيريز، وتحوّل إلى شخصية منقذة فذة في العالم العربي والإسلامي، ورفعت صوره في بعض البلاد العربية جنبًا إلى جنب مع الزعماء العرب، وصار العلم التركي ملاصقًا لأعلام تلك البلدان!
استطاع «العدالة والتنمية» أن يتجاوز مطبات الحركات الإسلامية من خلال اعتماد الفكر السياسي وتجنب التسلح والعنف، فكسب الشارع الداخلي، وزاد شرعيته، وبمزيج من خطوات مدروسة وتشريعات دستورية واستفتاءات، استطاع الحزب إقصاء خصومه، وتحول إلى حكم الفرد الواحد وحكم الحزب الواحد.
كانت الخطوات التي قام بها «العدالة والتنمية» في التأسيس لحكم تركيا المطلق ذكية وبراغماتية مع أوروبا ومعضلة الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، ومع حلف شمال الأطلسي، والمحيط العربي والإسلامي، وروسيا الجارة الكبيرة التي أقام معها علاقات تجارية واقتصادية عالية المستوى، ومع القضية الفلسطينية وعلاقاته مع إسرائيل، ومع الدول المجاورة، فأزال الاحتقانات التي كانت موجودة، وخصوصًا مع العراق وسوريا.
هذه السياسات فتحت الأبواب على مصاريعها أمام أردوغان وحزبه، حتى أنه أقام أفضل العلاقات مع دول الخليج التي كانت على مسافة من الحكم العلماني التركي الذي سبق مرحلة «العدالة والتنمية»، وترك الحزب أثرًا في المحيط العربي والإسلامي وصل إلى حد تبني مبادئه وشعاراته، هذا كله جعل أردوغان يشعر بالنشوة والزهو، وحسبنا أن نسمعه بعد فوزه بانتخابات الرئاسة في العام الماضي يقول: «ليس تركيا فحسب، وإنما دمشق وحلب وحماة وحمص وغزة ورام الله انتصرت اليوم»!
ومع موجة ما سُمي «الربيع العربي»، بدأت الانهيارات في القناعات من الدول الصديقة والحليفة لأردوغان، وعلى مستوى الأحزاب وصولًا إلى المواطن العربي، ففي تونس كان التدخل في الشؤون الداخلية التونسية، وتغذية التيار الإسلامي واضحًا من تركيا، وفي ليبيا كذلك، واتضحت الصورة أكثر في مصر، حيث تدخلت تركيا وعمل أردوغان في شكل مكشوف وفاضح على الانتصار لتنظيم «الإخوان المسلمين». وتذكر الباحثون أن «مرمرة» لم تكن لولا حركة «حماس» و «الإخوان» في غزة! كذلك صارت الاستباحات المتعددة لحدود العراق أكثر وضوحًا، كما كان الانقلاب المفاجئ على سوريا حليف الأمس وصديقه والمروج له في المنطقة العربية أكثر من صاعق، فبعد ودٍّ لبشار الأسد قلَّ مثيله، انقلب أردوغان إلى عدو لا يمكن تخيله! وكل ذلك كما كشفت الوقائع لاحقًا بغية الانتصار لتنظيم «الإخوان» في سوريا، لا سيما أن أردوغان استبق «الربيع العربي» بمحاولة تسويق فكرة تقاسم السلطة بين نظام الأسد و «الإخوان».
اصطدم أردوغان مع تونس ومصر، وخسر سوريا، وخسر ثقة معظم دول الخليج التي تخشى من تمدد «الإخوان» وخطرهم، وساعد في كشف الأمور إخفاق حركات الإسلام السياسي التي وصلت إلى الحكم في بعض دول «الربيع العربي»، وخروجها من اللعبة السياسية خاسرة ومؤذية لصورة أردوغان وحزبه.
ومع التعديلات الدستورية المرتقبة، والوصول إلى الحكم المطلق لتركيا، ظهرت شخصية أخرى للحزب وأردوغان، فقد ظهرت الشخصية الخطابية الانفعالية، العدوانية في بعض الأحيان، وظهرت أطماع الدولة ورئيس الدولة في الهيمنة، والرؤية الأيديولوجية الدينية المرتبطة بمجلس عالمي و «تنظيم أيديولوجي دولي» يتحرك باتجاه هدف واحد هو سيادة هذه الأيديولوجية.
واليوم يصطدم أردوغان بروسيا، ويبدو واضحًا أن إسقاط تركيا طائرة «سوخوي» الروسية ستكون له ارتدادات كثيرة، ربما أكثر من مجرد عقوبات اقتصادية، كما أعلن فلاديمير بوتين، والمتابعون يعلمون أن العلاقة بين أردوغان وبين حلفائه في الغرب ليست في شكلها الأمثل، وثمة خلافات عميقة، خصوصًا في ما يتعلق بمعالجة المسألة الكردية والمناطق الحدودية مع العراق وسوريا، فضلًا عن دعوات أمريكية إلى ضبط الحدود في وجه «داعش».
ومنذ أيام أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكمًا يدين الحكومة التركية بانتهاك حرية الرأي والتعبير حين حجبت موقع «يوتيوب» بين عامي 2008 و2010، ما يعني نقاطًا سودًا ومزيدًا من العقبات أمام محاولات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
يظهر أردوغان اليوم منفعلًا مرتجلًا، يصدر قرارات تشبه تلك التي لم تسمح للتيارات الدينية بالوصول إلى السلطة من قبل، والسؤال الذي يطرح ذاته اليوم: هل تسمح هذه العلاقات المتوترة حينًا والعدائية أحيانًا باستمرار النمو الاقتصادي لتركيا الذي ساهم بازدهار الحزب؟
منذ أيام لجأ أردوغان إلى قطر التي تحاول أن تقود «حملة إنقاذ» اقتصادية لحليف في ملفات ستتكفل الأيام بتوضيحها، مصحوبًا بدعاوى القرضاوي وفتاواه بوجوب الوقوف إلى جانب «الابن البار» في التنظيم الدولي لـ «الإخوان»، فتاوى بخل بها القرضاوي على أمه مصر التي يعاني اقتصادها أزمة منذ سنوات، فهو لا يجود بكنوز الفتاوى هذه إلا لحاكم يرضيه، أما الشعوب والأوطان فلا قيمة لها في فكره.
لا شك في أن أردوغان عاد وفي جعبته بعض العقود الاقتصادية التي دفع ثمنها مزيدًا من الالتزام بنصرة التنظيم الدولي لـ «الإخوان». ولعل صورته، وهو يرفع شعار «رابعة» في قاعة الاستقبال الرسمية في الدوحة، دليل كافٍ على ذلك.
ترى هل تنفع «حملة الإنقاذ» القطرية ووصفات القرضاوي وفتاواه في إنقاذ أردوغان من المطبات التي وقع فيها وآخرها مع الروس؟ وهل تجعله هذه الزيارة في مأمن من ارتدادات حادثة الطائرة الروسية، في ظل الحدة التي اتسم بها الموقف الروسي، وإصرار بوتين في خطابه السنوي على أنه لا يمكن نسيان ما حدث؟ وهل يكتفي أردوغان بسلطة مطلقة خطط لها ووصل إليها؟ أم أن تركيا وحزب «العدالة والتنمية» اليوم أمام مستقبل مختلف؟ ننتظر!
*ينشر هذا المقال في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة