نحن لا نقدم تحليلاً تشاؤميًا وإنما رؤية أساسها التاريخ لبحث كيف يعكس التصويت الشعبى بانسلاخ بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى
نحن لا نقدم تحليلاً تشاؤميًا وإنما رؤية أساسها التاريخ لبحث كيف يعكس التصويت الشعبى بانسلاخ بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى تغيرًا جوهريًا فى الحالة (mood) التى يمر بها النظام الدولي، فالنظام الدولى يبنى على الفاعلين من الدول والمنظمات الدولية والفاعلين من غير الدول، ثم التفاعلات بأنواعها المختلفة من سياسية وتجارية واقتصادية وثقافية وعسكرية، كما يستند على أيديولوجية، بناء فكرى ما يتم التوافق عليه من مرحلة إلى أخري، وأخيرًا الحالة التى تسيطر على جميع أطرافه والشعوب التى تشكل الفاعلين به، والنظام الدولى الراهن، والذى يعد امتدادًا للعولمة التى ذاع صيتها منذ نهاية القرن العشرين، يتسم بعدة خصائص، مسلمات يكاد يشكل انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبى تحديًا وتهديدًا لها. فهو نظام تعددى على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال مركز اتخاذ القرارات الدولية، ولكنها لا تستطيع أن تستأثر وحدها بإصدارها، وهو نظام التكتلات السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ انظر إلى حلف شمال الأطلنطي، الناتو والاتحاد الأفريقى والبريكس والآسيان ومنظمة شنغهاى للتعاون الاستراتيجى وجامعة الدول العربية ومنظمة الدول الأمريكية، وهو نظام أسبغ على المنظمات غير الحكومية العالمية مكانة الفاعل الدولى المؤثر على مجريات السياسة العالمية، وهو نظام يقوم -فى جوهره- على الفكر الرأسمالى بتفريعاته المختلفة، سواء الداعى إلى العدالة الاجتماعية أو ذلك الذى يحض على الانفلات وعدم الانضباط، بهذا التشكيل يقوم النظام الدولى على مفهوم التوافق وروج لحل المنازعات بالطرق السلمية تحقيقًا للاستقرار الدولى حفاظًا على مصالح الفاعلين الرئيسيين فيه، وبالفعل فإنه باستثناء الوطن العربي؛ حيث تنتشر الحروب المدمرة، فإن معدلات وكثافة الحروب الدولية فى الفترة ما بين 1991 إلى 2016 صارت أقل بكثير من مثيلاتها فى الفترة ما بين 1946 إلى 1990؛ حيث كان النظام الدولى ثنائيًا وتنتشر فيه الحروب بالوكالة.
ما الذى يعنيه إذًن تصويت البريطانيين بالانسحاب من الاتحاد الأوروبى على النظام الدولي؟ وكيف يؤدى ذلك وبالنظر إلى تجارب التاريخ إلى التمهيد للحرب العالمية الثالثة؟
أولا: يضرب انسحاب بريطانيا فكرة التكتلات الدولية فى مقتل، فإذا كان الشعب البريطانى يعبر عن ضجره من الانضمام إلى أقدم وأهم تكتل دولي، فما بال الشعوب الأخرى الأعضاء فى نفس التكتل أو فى تجمعات شبيهة؟، وسوف نرى شعوبًا أوروبية أخرى كالهولنديين والإيطاليين وربما الفرنسيين وغيرهم كثيرون يحذون حذو بريطانيا، إن الضجر من الاتحاد الأوروبى أساسه من ناحية سيطرة الولايات المتحدة عليه وعلى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وتأثيره الطاغى على الهوية الوطنية للدول الأعضاء بما يستثير فيهم حالة رفض كاملة، وثالثًا هذا الطوفان من شعوب شرق أوروبا إلى أوروبا الغربية بما يهدد مستقبل العمالة الوطنية بها. ولا شك أن انهيار الاتحاد الأوروبي، وهو قادم، يمثل بداية لانهيار كافة التجمعات الإقليمية، والعودة إلى فكرة الدولة القومية المستقلة ذات السيادة، بما يعنيه ذلك من آثار سلبية على مفهوم التوافق أو التوازن فى النظام الدولي.
ثانيًا: يشكل انسحاب بريطانيا بداية لانتصار أيديولوجيات التعصب القومي، وهى ذات الأيديولوجية التى دفعت إلى الحرب العالمية الثانية. إن فكرة التعصب تقود إلى عدة نتائج يأتى على رأسها التخلى عن العولمة والقيم العالمية والعودة إلى المحلية بكل ما يتضمنه ذلك من انغلاق على الذات، من ثم الإيعاز للقوة المتطرفة إقليميًا وعالميًا بأن تكثف من محاولات تحررهاعلى النظام والإطاحة به، فلا شك أن نجاح دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة سيعيد مبدأ مونرو عام 1821 بما يعنيه من تحول السياسة الخارجية إلى الاستغراق فى الداخل الأمريكى دون الانشغال بتوازن القوى الدولي.
ثالثًا: إن التعصب القومى يدفع إلى العودة إلى المفهوم التقليدى للأمن القومى والمبنى على البناء العسكرى وحده، والذى يقود إلى سباق تسلح شديد الخطورة ليس فقط لأنه يتناول الأسلحة النووية، ولكنه أيضًا يوظف التقدم التكنولوجى المعاصر فى إبداع وابتكار أسلحة دمار شامل، من ثم؛ يسود التهديد العسكرى على ماعداه، يضاف إلى ذلك أن الشعوب التى تعرضت للقهر والإهانة وجرح كرامتها فى الحرب العالمية الثانية سوف تنمو لديها الميول القومية المتطرفة للانتقام ممن أهانها باستخدام تلك الأسلحة.
رابعًا: ولا شك أن هذه الدول والشعوب ستتجه إلى توظيف وسائل التواصل الاجتماعى الراهنة والمتطورة فى المستقبل إلى عملية التجنيد السياسى والفكرى الدولية لجماعات من المؤيدين والمتعاطفين، الذين يؤمنون بالفكر الفوضوى باعتباره الخطوة الضرورية للانتقال إلى نظام العدالة الغائب، وهكذا، بدلاً من مواجهة قوى الإرهاب الدينى والتعصب القومى يتم الدفع بها والإعلاء منها، كل ذلك للانتقام من مفهوم الدولة الظالم واستبداله بمفاهيم الجماعة العابرة للقوميات والحدود.
خامسًا: فى سبيل تفكيك النظام الدولى تتجه الدول إلى التحالفات الثنائية أو الثلاثية على أقصى تقدير، وهى تحالفات لا تسعى فقط إلى فرض إرادتها على مكونات ما بقى من النظام الدولي، ولكن أيضًا لإقامة عالم جديد يتشكل من عدد محدود من الدول الكبرى والتحالفات الفرعية المساندة إقليميًا، إن هذا الترتيب لا يقوم ولا يستقيم إلا باللجوء إلى العنف وإشاعة الصراع توطئة للانتقال إلى مرحلة جديدة من الحياة الدولية. وأخيرًا- فى ظل النظام الدولى الراهن صارت دول الجنوب فكريًا وثقافيًا واقتصاديًا وعسكريًا عبئًا على الفاعلين الكبار أصحاب المصالح الكبري، انظر إلى وضع الوطن العربى والشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، دول تئن من الفسادوالاستبداد وتعلى من قيم التواكلية وتعشق العيش على هامش العالمية، فى إطار القيم الجديدة المبنية على القومية والعسكرة والقوة المتناهية لا مكان لتلك الدول الصغري.
وهكذا، تميل الدول الكبرى إلى عودة السيطرة على تلك الأقاليم وليس فقط إعادة تقسيمها وتجزئتها، هذه التطورات فى إطارها التاريخى تؤدى بالضرورة إلى الصدام الكبير وتعد إرهاصات للحرب العالمية الثالثة بقصد تطهير العالم من أعبائه وتحريره من قيوده وإعادة صياغة علاقاته وإقامة بناء مختلف بفاعلين جدد وفكر متطور وحالة لا يمكن وصفها الآن.
- نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة