في الواقع، إن الكوزموبوليتانية الحقيقية من الأمور النادرة، فهي تتطلب الشعور بارتياح وتقبل تجاه الاختلاف الحقيقي
الآن، ومع استخلاص حالة أشبه بالثورات الشعبوية، بريطانيا من قلب الاتحاد الأوروبي، والحزب الجمهوري من قلب السباق على الرئاسة، ربما حان الوقت للتوقف عن الحديث عن يسار ويمين، وليبراليين ومحافظين.
من الآن فصاعدا، ستدور رحى المعارك السياسية الكبرى بين قوميين ودوليين، ومحليين وعالميين .
ومن الآن فصاعدا، ستصبح الولاءات ذات الأهمية الكبرى قبلية ضيقة النطاق من عينة شعارات مثل «اجعلوا أميركا عظيمة من جديد» أو ستكون الولاءات متعددة الثقافات والكوزموبوليتانية.
في الواقع، إن الكوزموبوليتانية الحقيقية من الأمور النادرة، فهي تتطلب الشعور بارتياح وتقبل تجاه الاختلاف الحقيقي، وأنماط الحياة الغريبة تماًما عن نمط حياة المرء.
ويستقي هذا النمط من الكوزموبوليتانية إلهامه من عبارة كاتب مسرحي روماني تقول: «لا شيء بشرًيا غريب بالنسبة لي».
في المقابل نجد أن الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم «كوزموبوليتانيين» داخل الغرب في عصرنا الحالي، يشكلون جزًءا من نظام يعتمد على المقدرة والعطاء الفردي، يعمد إلى تحويل الاختلافات إلى تشابهات، من خلال استخلاص الأفضل والأجمل من كل مكان ودمجهم في فئة معينة متناغمة نطلق عليها «المواطنين العالميين».
وتتميز هذه الفئة بالتنوع العرقي (في حدود معينة)، وتبدو متلهفة على امتصاص الأجزاء التي تبدو لطيفة ومرحة من الثقافات الأجنبية، مثل الأطعمة ولمسة من الروحانية الغريبة.
ومع ذلك، فإن هؤلاء «المواطنين العالميين» يفكرون ويتصرفون على نحو يشبه أفراد قبيلة ما.
يتبع أفراد هؤلاء الفئة رؤية مميزة تجاه العالم، رؤية ليبرالية، وتجاربهم التعليمية المشتركة، وقيمهم وافتراضاتهم المشتركة (ويصفهم علماء الاجتماع باعتبارهم غربيين ومتعلمين ومعنيين بالصناعة وأثرياء وديمقراطيين).
ومثلما الحال مع أي مجموعة قبلية، فإنهم يسعون للشعور بالاطمئنان والألفة، من لندن إلى باريس إلى نيويورك، داخل كل «مدينة عالمية» غربية (مثلما الحال داخل كل «جامعة عالمية») تبدو على نحو متزايد قابلة للتبادل، ولأن تحل محل بعضها البعض.
وعليه، فإنه داخل أي مكان يسافر إليه المواطن العالمي، يشعر كأنه في وطنه.
في الواقع، نجد بالفعل أن القبلية النخبوية تلقى تشجيًعا من جانب تقنيات العولمة وسهولة السفر والاتصال إن المسافات والانفصال أحياًنا يفرضان الالتقاء والاندماج.
ولهذا فإن عصر الإمبراطورية خلق كوزموبوليتانيين وشوفينيين، أحياًنا من نفس الأفراد.
(هناك كوزموبوليتانية حقيقية في كتابات روديارد كيبلينغ، وتي. إي. لورانس، وريتشارد فرنسيس بورتون، عن المئات من اجتماعات دافوس).
إلا أنه لا يزال من الممكن التلاشي داخل ثقافة شخص آخر، وترك فقاعة المواطن العالمي جانبا.
إلا أن تجربتي تكشف أن الأشخاص الذين يتمكنون من تحقيق ذلك هم شخصيات استثنائية أو غريبة أو مختلفة عمن حولها بطبيعتها، مثلما الحال مع كاتب شاب أعرفه سافر عبر أفريقيا وآسيا سيًرا على الأقدام لسنوات، ولم يكن ذلك بغية تأليف كتاب.
كما أعرف ابنة اثنين من المبشرين الإنجيليين ترعرعت في جنوب آسيا وعاشت في العاصمة واشنطن، قبل أن تنتقل بأسرتها إلى الشرق الأوسط.
إن هؤلاء ليسوا الأفراد الذين يسعون للوصول إلى السلطة، والذين أصبحوا حائط الصد في مواجهة ثورة الشعبويين.
وليس هناك ما يضير بالضرورة في هذا الأمر، فالبشر بطبيعتهم يسعون للشعور بالانتماء لمجتمع ما، ومن الصعب الاستمرار إلى الأبد في حالة انفتاح على الآخر.
بيد أن المشكلة تكمن في أن قبيلتنا ممن يصفون أنفسهم بالكوزموبوليتانية، لا يرون أنفسهم كقبيلة، وذلك لأنهم عاجزون عن إدراك أن ما قد يبدو متنوًعا من الخارج يمكن أن يبدو بمثابة طبقة نخبوية مغلقة على نفسها أمام من يتعرضون للإقصاء، الذين ينظرون إلى مدن مثل لندن على النحو الذي كتبه بيتر ماندلر في إصدار «ديسنت» في أعقاب إعلان نتيجة استفتاء بريطانيا حول الانفصال عن الاتحاد الأوروبي: «مكان مخصص لطبقات مهنية تعتمد على الوراثة من المحامين والصحافيين والعاملين بمجال الدعاية والمثقفين، وطبقة معتمدة على الوراثة على نحو متزايد من السياسيين».
إن هناك كثيرا من أبناء لندن يعشقون المطاعم الأفغانية، لكنهم لن يقبلوا قط العيش قرب مشروع سكني خاص بالمهاجرين، كما أن هناك أميركيين ليبراليين يهللون لنهاية عصر البيض، بينما يفعلون كل ما هو ممكن لإبقاء أطفالهم بعيًدا عن المدارس التي تضم أبناء الغالبية والأقلية مًعا.
*بالتزامن مع جريدة "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة