السترات الصفراء وأزمة الديمقراطية في أوروبا
لا شك أن احتجاجات "السترات الصفراء" في فرنسا واستمرارها لمدة 6 أشهر تكشف عن أزمة الديمقراطية الأوروبية مع صعود تيارات اليمين الشعبوي.
تمكنت حركة "السترات الصفراء" في فرنسا، منذ بدايتها في النصف الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2018، من إحداث هزة في المشهد السياسي الفرنسي، بل ربما إعادة هيكلة السياسة الفرنسية، ذلك عبر إثارة القضايا التي تشغل بال المواطن الفرنسي، وتؤثر علي مستوي معيشته وقدرته الشرائية، خاصة تلك المتعلقة بالأعباء الضريبية والمواطنة والديموقراطية والتحول البيئي والتوازن بين الأقاليم المختلفة، ما بين المدن الصغرى والمدن الكبرى، وبين الريف والحضر، وما دون ذلك من المشكلات والاختلالات التي يعاني منها الفرنسيون.
"السترات الصفراء" بين الإيجابية والسلبية
تميزت احتجاجات "السترات الصفراء" عن بقية الحركات الاجتماعية والنقابية والسياسية والمطلبية، بميزات عديدة من بينها الإرادة والتصميم والطموح، حيث تدخل هذه الاحتجاجات في شهرها السادس دون توقف، وربما تكون هذه الاحتجاجات من أطول الاحتجاجات زمنيا، كما أنها تميزت بغياب التنظيم بمعنى التسلسل القيادي والتراتيبة الهرمية، فالجميع على قدم المساواة، باستثناء من فوضه المحتجون للتحدث مع الحكومة وممثليها، أو الذين شاءت الأقدار والأحداث أن يتصدروا الواجهة بسبب إصاباتهم في المواجهات بينهم وبين قوات الأمن، والتي ترتب عليها أن فقد البعض فيهم أحد أعينهم، نتيجة لانفجار بعض المقذوفات، كما أن احتجاجات السترات الصفراء لم تعرف المجموعات الأمنية التي تؤطر المسيرات والاحتجاجات من قبل التنظيمات النقابية المتمرسة في احتجاجات الشوارع، لمنع المتسللين والمخربين من الانخراط في هذه الاحتجاجات.
من ناحية أخري فإن احتجاجات "السترات" تميزت بتصاعد مطالبها من إلغاء ضريبة الوقود التي فرضت في مطلع 2019، إلي قصور الديموقراطية التمثيلية عن التعبير عنهم، والأخذ في الاعتبار مطالبهم، وعزلة النخبة البيروقراطية في العاصمة من "خريجي المدرسة العليا للإدارة" عن عموم المواطنين العاديين، وضرورة إجراء استفتاءات شعبية حول القرارات المهمة التي تتعلق بالمواطنين، وإدخال تعديلات على مؤسسات الدولة والديموقراطية التمثيلية ودعم الديموقراطية التشاركية.
مواقع التواصل الاجتماعي حلت محل التنظيم والقيادة، فهذه الأدوات هي وسائل الحشد والتعبئة وتعيين أماكن التظاهرات ومواعيدها والمدن التي ستكون مسرحا لهذه الفعاليات، ومن ثم فالحركة أي السترات الصفراء تمتاز بالعصرية ومواكبة التغير الكوني بعد ثورة الاتصالات والمعلومات.
بعض هذه المزايا التي انفردت بها حركة السترات الصفراء قد تنطوي علي وجوه سلبية، ذلك أن فقدان التنظيم والقيادة كان في تقدير العديد من الكتاب، المدخل إلى اندلاع العنف والتخريب وتسلل جماعات من اليمين المتطرف إلى هذه الاحتجاجات، كما أن تصاعد المطالب ينطوي على التصعيد والمبالغة وعدم التركز على الأهداف المحددة للحركة، والتي تتعلق أساسا بتخفيف العبء الضريبي عن كاهل الطبقات الشعبية وبعض شرائح الطبقة الوسطى، كما ينطوي على صعوبة تحقيق هذه المطالب المتصاعدة، أو الاستجابة لها، أما فيما يتعلق بالإرادة والتصميم واستمرار الاحتجاجات على مدار الشهور الستة حتى الآن، فربما كان مردوده إرهاق المتظاهرين وتحميلهم أعباء تفوق طاقتهم وانصراف الكثيرين عن الاستمرار في التظاهر والاحتجاج وعدم قدرتهم علي ذلك بسبب أعبائهم العائلية والمادية.
ومع ذلك فإن هذه المزايا التي انفردت بها الحركة بجوانبها الإيجابية والسلبية، قد كفلت لهذه الحركة تعاطفا وتأييدا بالذات في البدايات الأولى من قبل الرأي العام، بلغ في بعض التقديرات 73% أو أكثر، وقد تضاءلت هذه النسبة كثيراً في الآونة الأخيرة، بسبب العنف والمواجهة الأمنية وعرض الإعلام الحكومي هذه المشاهد وكذلك طول مدة الاحتجاج.
دوافع الحركة تتجاوز زيادة أسعار الوقود
تمثلت دوافع احتجاجات "السترات الصفراء" في رؤيتهم بأن سياسات "ماكرون" والحكومة التي تنفذها، تستهدف تغيير وظيفة الدولة الفرنسية، التي كانت تسمى دولة الرفاهية، والتي تتحمل مسؤولية التعليم والصحة والنقل وخدمات التقاعد والتأمين الصحي، فظلت تتحمل هذه الأعباء طوال عقود من حكم اليمين أو اليسار، السياسات الحالية والتي يعبر عنها بالماكرونيزم" تهدف إذن إلى تحوير وتعديل وظيفة هذه الدولة، حيث تصبح الدولة محايدة بين الأغنياء والفقراء وتؤمن وظائف الأمن والسلامة الإقليمية، دولة متعولمة تتلاءم وتتواءم مع قضايا العولمة ومتطلباتها على حساب ضرورات ومتطلبات المواطن العامل والموظف.
من الصحيح أن السياسات التي يطبقها ماكرون كانت بداياتها مع سابقيه رؤساء الحكومات الفرنسية من اليمين واليسار، ولكن بدرجات قليلة ومحسوبة، وهي الدرجات التي يوصفها ماكرون بالجبن و"افتقاد الشجاعة" والإفراط في الحذر، في حين أنه يواجه هذه المشكلات المتراكمة الخاصة بتعزيز قدرة الاقتصاد الفرنسي علي التنافسية وتحقيق المعايير الأوروبية وخفض عجز الميزانية، وهي السياسات التي فتح لها الباب ماكرون بقوة، كانت نتيجتها أن تفجرت براكين الغضب لدى المواطنين القابعين في أعماق الريف والأقاليم البعيدة عن العاصمة والتي تعاني من نقص خدمات التعليم والصحة والنقل والثقافة.
مصادر استمرارية قوة الدفع للحركة
يجمع بين المحتجين من ذوي "السترات الصفراء" تركزهم الجغرافي في الريف والمناطق النائية والضواحي، واعتمادهم في الانتقال إلى أعمالهم على السيارة والوقود، وكذلك قصور خدمات النقل والصحة والتعليم والثقافة، فهؤلاء القابعون في المناطق النائية لا يشاهدون المسرح أو عروض الباليه أو الحفلات الموسيقية، فهم أولا لا يستطيعون دفع ثمن تذاكر حضور هذه الفاعليات، كما أنهم يفتقدون للعلاقات التي تمكنهم من الحصول على التذاكر مجانا أو بدعوات مجانية، من ناحية أخرى فإن جميع المحتجين في السترات الصفراء تتراوح مداخيلهم الشهرية بين 1500 يورو و 3500 يورو شهريا، من العمال والموظفين والكوادر المتوسطة والحرفيين، في حين أن أعباءهم الضريبية تفوق قدرتهم على الاحتمال، ويأخذون على بلادهم أنها الأعلى في فرض الأعباء الضريبية بعد هولندا وبلجيكا.
وهكذا فإن البعد الجغرافي وانخفاض الدخل ونقص الخدمات العامة في النقل والصحة والتعليم هي العوامل التي حققت الوحدة والتضامن بين المحتجين، وكذلك التماسك والتصميم، نسبة كبيرة من هؤلاء المحتجين يعانون من مشكلة "نهاية الشهر" أي قصور مداخيلهم عن تغطية نفقاتهم طوال أيام الشهر.
هذه المعاناة في نظر محتجي "السترات الصفراء" تكاد تكون بعيدة عن مخيلة الرئيس ماكرون القادم من عالم الأعمال والمال والبنوك والدوائر المتعولمة، فالرئيس في نظرهم رئيس للأغنياء وينحاز إليهم، كما أن النخبة الحكومية المحيطة به هم من "خريجي المدرسة الوطنية العليا للإدارة" وهم بعيدون عن نبض الشارع والمواطن ومعزولون عنه بامتيازاتهم وحصانتهم التي يطالبون بإلغائها، بل وإلغاء المدرسة الوطنية العليا للإدارة التي تخرجوا منها وتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص، وهو المطلب الذي يبدو أن الرئيس يؤيده حتى الآن رغم أن هذه المدرسة في السنوات الأخيرة قد فتحت أبوابها لأبناء الضواحي المتميزين وبعض الفئات الاجتماعية الأخرى.
الحوار الوطنى وآفاق الحل
الأزمة الحالية مستمرة وقائمة والإجراءات التي أعلن عنها الرئيس المتمثلة في إلغاء ضريبة الوقود وزيادة الحد الأدنى للأجر بمقدار مائة يورو وإعفاء ساعات العمل الإضافية والمتقاعدين الذين تصل معاشاتهم الشهرية إلى ألفي يورو من الضرائب، وغيرها من الإجراءات والتي تقدر تكلفتها المادية بـ 10 مليارات يورو لم تنجح حتي الآن في نزع فتيل هذه الأزمة، وهو الأمر الذي دعا رئيس الجمهورية إلى إعلان بدء حوار وطني في 15 يناير/ كانون الثاني عام 2019 واستمر حتي 15 مارس/ آذار عام 2019، أي 3 أشهر وهو الحوار الذي شارك فيه الرئيس وحضر مختلف التفاعليات التي ارتبطت به، وقد تضمن هذا الحوار 10 آلاف اجتماع وتم تحرير 16 ألف دفتر للشكاوى في البلديات، وتلقي آلاف المقترحات من المواطنين، وتم تلخيص هذه الشكاوى في حوالي 1500 صفحة، كما شارك في الحوار الوطني مليون و 500 ألف شخص، من مختلف الفئات الاجتماعية، وتركزت موضوعاته حول التحول البيئي، والضرائب، وتنظيم مؤسسات الدولة الديمقراطية والخدمات العامة والمواطنة، وتكلف إجراء هذا الحوار حوالي 12 مليون يورو توزعت بين الوزارات المشرفة عليه والمكلفة من قبل الرئيس والحكومة بإجرائه.
يتوقف مصير هذه الأزمة التي فاقت توقعاتها تقدير الدوائر الرسمية والحكومية، على طبيعة القرارات التي ستتحدد علي ضوء مخرجات هذا الحوار، ومدى قرب هذه القرارات أو ابتعادها عن هموم المواطنين ومقترحاتهم وتطلعاتهم لمستوى معيشي متحرر من الخوف والقلق، ومدى قدرة هذه القرارات على إحداث التوازن بين ضرورات الإصلاح وبين مطالب المواطنين وتحقيق العدالة بين الفقراء والأغنياء والتوازن بين معايير العولمة والمعايير الأوروبية وبين القرارات الوطنية.
ويبقي أن نشير إلى أن هذه الأزمة ليست بالضرورة محصورة في النطاق الفرنسي، بل هي ممتدة إلى العديد من البلدان الأوروبية التي تطبق معايير العولمة، وهي المعايير التي تحاول تقليص وظيفة الدولة.
ولا شك أن احتجاجات "السترات الصفراء" في فرنسا واستمرارها لمدة 6 أشهر حتى الآن تكشف بجلاء أزمة الديمقراطية التمثيلية الفرنسية وقصور مؤسساتها عن استيعاب مطالب القاعدة واحتواءها على نحو يحول دون التهميش، بل تكشف عن أزمة الديمقراطية الأوروبية في عموم القارة خاصة مع صعود تيارات اليمين الشعبوي، وهو الأمر الذي يقتضي توسيع هامش المشاركة الشعبية وقنوات الاتصال، واستكشاف هموم المواطنين أولا بأول، وخلق مؤسسات ديمقراطية جديدة قادرة على تحقيق مطالب المشاركة والمواطنة وتعزيز الكرامة الإنسانية في مواجهة الفقر وانخفاض الدخل، وتحقيق معدلات أعلى في العدالة في توزيع الأعباء وتقريب الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وهذه المسائل هي فيما يبدو جوهر التحدي المطروح الآن على الساحة الأوروبية والعالمية.