ما يحصل في الشارع يشبه إلى حد ما مشاهد حربية في شوارع باريس حتى أنها أكثر عنفاً في المظاهرات التي يعّج بها تاريخ فرنسا.
المراقِب المتأمل لما يدور في شوارع باريس هذه الأيام من تظاهرات وإطلاق قنابل مسيّلة للدموع وكرات وامضة، يتخيّل نفسه في قلب أحداث ثورة الطلبة رغم اختلاف الزمنين 1968 و2017.
هل هناك نهاية لهذه الحركة الاحتجاجية التي أطلقت على نفسها السترات الصُفر؟
ما يحصل في الشارع يشبه إلى حد ما مشاهد حربية في شوارع باريس حتى أنها أكثر عنفاً في المظاهرات التي يعّج بها تاريخ فرنسا، أصبح اللون الأصفر مهيجاً لرجال الشرطة، وقد اتخذت من السترات الصُفر، رمزاً مُميّزاً لها وكما يفرض القانون الفرنسي على جميع سائقي السيارات البقاء في سيارتهم، وعند خروجهم منها يكونون ظاهرين للعيان، وهكذا عندما تخرج حركة السترات الصُفر إلى الشارع، تدق الشرطة جرس الإنذار. ونلاحظ أنه تم تجنيد أكثر من 7 آلاف فرد من أفراد الشرطة لمواجهة المظاهرة الأخيرة.
الطريف في الأمر أن وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاسنير بعد أن عجز بأساليب القوة والعنف والقنابل المسيّلة للدموع والكرات الوامضة من تهدئة المتظاهرين، فقد استعان بالممثلة الفرنسية أريل دومباسل 65 عاماً؛ وهي زوجة المفكر ذي النزعة الصهيونية بيرنارد هنري ليفي، للمساعدة في تفريق المتظاهرين بالغناء والموسيقى
لقد ساهمت إصلاحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ظهور هذا الحراك، وانتشاره في عموم بلدان الاتحاد الأوروبي، كما ترى الحركة أنّ هذه الإصلاحات تستنزفُ الطبقتين العاملة والمتوسطة فيما تُقوّي الطبقة الغنيّة، وهو البرنامج الذي جاء به ماكرون.
يبدو لي، من موقع المتأمّل، في بلد أمضيت فيه نحو ثلاثين عاماً، أنني لا أعرفه، فقد كان الهدوء الذي يتسّم به الفرنسيون لم يعد كذلك، رغم أن شعب الغال عنيف ومتوحش وحماسي، لكن الثورات الاجتماعية شذبته وأضفت عليه روحية التسامح والهدوء، لكن الشعوب أحياناً تعود إلى حالتها الأولى مثل الطبيعة، ومما لا شك فيه أن وجود القتلى والجرحى من جراء هذا الحراك وجهته إلى نقطة اللاعودة بالنسبة للطرفين، وهناك توقيفات وإدانات وأحكام.
هل تعود الشعوب إلى بربريتها عندما تجوع؟ لا يمكن أن نقول إن الشعب الفرنسي جائع، ولكن الجوع المعاصر يتخذ أشكالاً متنوعة في العصر الحاضر، إن حلم الشعب الفرنسي بالرفاهية جعله يخرج مسانداً هذا الحراك، وشعر أن مكتسباته التي حصل عليها عبر ثوراته الاجتماعية مهددة بالخطر منذ مجيء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى سدة الحكم، وقد تجرأ على القيام بخطوات لم يجرؤ أي من الأحزاب الكلاسيكية السير نحوها، لذلك ليس من السهل أن ينفذ ماكرون برنامجه الرأسمالي الذي لا يتلاءم مع الروح الفرنسية التي تنزع نحو الاشتراكية.
هل سوف تهدأ القنابل المسيّلة للدموع والكرات الوامضة من غليان المتظاهرين؟
تشير الحقائق إلى أن الأمور تزداد خطورة أسبوعاً بعد آخر، وليس أمام الحكومة سوى استخدام القوة المفرطة لإسكات الاحتجاج، ويدرك الحراك أن قوانين ماكرون تصّب في صالح البرجوازية، ويرى المتأملون أن هذا الحراك ولد بصورة مفاجئة، لكن له أسبابا عميقة، وهي تكمن في تباطؤ الاقتصاد الفرنسي إزاء الاقتصاد الألماني، وهذا ما أجّج صراع النيوليبرالية والطبقة العاملة وأنصارهم، والتي أخذت قوتها بوصول الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران للسلطة والذي كان يمسك العصا من الوسط، وهذا ما لم يدركه الرئيس ماكرون الذي أعاد العلاقة مع الدوائر المالية والشركات بشكل واضح دون الاهتمام بمصالح الطبقة العاملة والمتوسطة، ولم يقدر قوة هذه الحركة الاحتجاجية أو لم يتوقع ظهورها وهو واثق من نفسه من خلال الانتخابات التي رجحت كفته بصورة واضحة، ولكن ذلك لم يكن إلا وهماً، من السهل أن تأتي إلى السلطة ولكن من الصعب المحافظة عليها، وهذه هي حالة ماكرون، لا سيما مع استطاعة هذه الحركة على شّل الاقتصاد الفرنسي برمته، وتكمن قوتها في أنها قادرة على تنظيم نفسها خارج أماكن العمل، لذا أصبحت حركة جماهيرية واسعة.
لم تكن الحركة صافية مئة بالمئة، إذ تحاول المجموعات النيونازية الصغيرة والفاشية واليمينية المتطرفة التغلغل فيها تحت الغطاء القومي، كما حاول الإسلاميون والجهاديون أن يتغلغلوا إليها أيضاً، وهذا ما برز في قطع رأس دمية تمثل الرئيس ماكرون يوم 21 ديسمبر في مدينة أنغولام من طرف جلاد يرتدي الأسود بنفس الأسلوب الذي يقطع به الدواعش رؤوس ضحاياهم في سوريا والعراق وليبيا، فيما يهاجم بيرنارد هنري ليفي معاداة السامية المتفشية بين السترات الصُفر! وكل يغني على ليلاه.
لا أحد يستطيع التنبؤ بماذا سيحصل في المستقبل؟، وهل سيضحي ماكرون وأنصاره بالحكم كما ضحى به شارل ديغول في عام 1968؟
لا يمكن حل هذه المشكلة بدون حل مشكلة الاقتصاد الفرنسي الذي يعاني من ضعف هيكلي في الإنتاجية، لدى البرجوازية الفرنسية مشاكلها الخاصة وهي بطبيعة الحال لن تضحي بالنيوليبرالية؛ وحتى لو قرَّرَت التضحية، فأي تنازل أمام الاحتجاجات هو سيف ذو حدين، إما أن يُرضي المحتجين فيتوقف الحراك، وإما أن يزيد من ثقتهم بنفسهم.
الطريف في الأمر أن وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاسنير، بعد أن عجز بأساليب القوة والعنف والقنابل المسيّلة للدموع والكرات الوامضة من تهدئة المتظاهرين، فقد استعان بالممثلة الفرنسية أريل دومباسل 65 عاماً؛ وهي زوجة المفكر ذي النزعة الصهيونية، بيرنارد هنري ليفي، للمساعدة في تفريق المتظاهرين بالغناء والموسيقى بدلاً من استخدام خراطيم المياه والاشتباكات العنيفة التي أدمنها رجال مكافحة الشغب ضد متظاهري الستر الصُفر، يبدو المشهد كوميدياً، ولكن لا أحد كان يتوقع نتائجه، فقد أطلقت الغناء للمتظاهرين في شوارع باريس وخصوصا في ميدان الجمهورية، مرجع كل المظاهرات الكبرى، وكان تأثيره فاعلاً وفورياً للغاية، وعاد المتظاهرون إلى ديارهم، فيما تحدث البعض الآخر من أنصار السترات الصفر عن التعذيب، وهددوا بتقديم الدعاوى والشكاوى أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لإدانة فرنسا بسبب "المعاملة القاسية الإنسانية والمهينة" لهم، وفي المقابل، نظم أنصار السترات الصُفر "مسيرة كبرى للجرحى" لحظر استخدامها، لكن غناء أريل دومباسل لا يمكن أن يهدئ المتظاهرين إلى الأبد، فالحلول المؤقتة لا تداوي الجروح العميقة في المجتمع الفرنسي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة