وجاءت أزمة كوفيد 19 لتشد من ساعد هذا التيار، حيث انطلق كما تقول وكالة بلومبرج للأنباء العديد من الدعوات إلى تحقيق الاعتماد على الذات
أحيانا ما يثار الحديث عن العولمة الاقتصادية بمعنى يكاد يتعارض على نحو فج مع الوقائع اليومية التي نشهدها في حلبة الاقتصاد العالمي. والمعنى الذي نقصده هو الحديث المبالغ فيه أحيانا عن تدويل عملية الإنتاج والاستهلاك، وبحيث تصبح كافة بلدان العالم وحدات ذرية في مجرة اقتصادية لا يملك أحد التأثير عليها.
والواقع أنه رغم صحة الحديث نسبيا عن هذه العولمة من زاوية ضخامة حجم التعاملات وازدياد عدد الفاعلين الدوليين، إلا أنه لا يلغي في رأينا حتى الوقت الراهن من توزيع مراكز التأثير والثقل النسبي للوحدات المكونة لما يطلق عليه العولمة الاقتصادية. أو بمعنى آخر فإن الحديث عن العولمة ينبغي أن يقترن دائما، إذا ما أريد أن يكون له فائدة تحليلية بأوزان نسبية محددة للوحدات المتفاعلة في إطار هذا الاقتصاد الدولي.
ولا يقتصر الحديث هنا على أهمية بعض الأطراف من حيث ضخامة الحجم فقط مثل حجم الصادرات أو الواردات أو الاستثمارات كالولايات المتحدة والصين وأوروبا الموحدة، بل ينبغي في الواقع أن يقترن ذلك أيضا بالآثار التي يمكن أن تنجم عن السياسات الاقتصادية في أي بلد من البلدان، ومن هنا فإننا سنجد فروقا هائلة فيما تمارسه هذه السياسات من آثار سواء على المستويات المحلية أو الدولية باختلاف الطرف الفاعل ومكانته في الاقتصاد الدولي. فبالتأكيد تؤثر السياسة النقدية في الولايات المتحدة بلد الدولار عملة الاحتياطي الدولي ووسيلة التبادل والتسعير الأساسية على المستوى الدولي، أكثر من أي سياسة نقدية لأي بلد آخر في العالم.
الأمر الثاني المهم فيما يمر به العالم بعد تفشي فيروس كورونا هو أن الركود أصبح حقيقة لا مراء فيها في أغلب أنحاء العالم، وبينما كان مما يخفف من أي أزمات ركود سابقة هو حدوثه في بعض الأماكن وعدم حدوثه في أماكن أخرى من العالم، وخاصة بين القوى الاقتصادية الرئيسية، مما يساعد على أن تلعب بعض الاقتصادات دور القاطرة التي تشد معها بقية أجزاء الاقتصاد العالمي للخروج من حالة الركود. وهذا كان على سبيل المثال دور الصين عند وقوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في عام 2008. ومن هنا لا يمكن مثلا الحديث عن أن الانتعاش في بعض الاقتصادات سيكون له نفس الأثر بغض النظر عن موقع هذا الاقتصاد من خريطة القوى الاقتصادية، حيث يكون لقنوات التجارة والاستثمار ودرجة أهميتها دور في تحديد المدى الممكن للانتعاش الاقتصادي تحت تأثير القاطرة التي تجر الاقتصادات التي تمر بالركود.
في حالة مواجهة وباء فبالتأكيد تكون هناك رغبة لدى جميع الدول في أن يكون كل شيء تحتاجه لمكافحة الفيروس متاحا تحت يدها بسرعة للاستعمال، وهو أمر يبدو أيسر حينما يتم إنتاج هذه الأشياء محليا.
نعيد هذا الحديث كله، لأننا مع التغيرات السياسية التي شهدتها بعض القوى الاقتصادية الكبرى وخاصة الولايات المتحدة رأينا صعود نجم تيار سياسي شعبوي مضاد للعولمة، ربما يتمثل في شعار الرئيس الأمريكي الذي خاض به انتخابات الرئاسة في عام 2016 وهو "أمريكا أولا"، وكما تجلى فيما بعد في سياسات تجارية حمائية تبناها الرئيس ترامب ضد أغلب الشركاء التجاريين، ودعوة الرئيس الشركات الأمريكية للعودة بمصانعها للإنتاج على أرض الولايات المتحدة.
وجاءت أزمة كوفيد 19 لتشد من ساعد هذا التيار، حيث انطلق، كما تقول وكالة بلومبرج للأنباء، العديد من الدعوات إلى تحقيق الاعتماد على الذات واستعادة سلاسل الإمداد من الصين، وكانت هذه الدعوات مدفوعة بالخوف من أنه يمكن الصين التحكم في سلاسل الإمدادات الطبية من أجل تسريع صعودها وتعزيز نفوذها الدولي. وتشير الوكالة إلى أن هذا الخوف غير منطقي. وكذلك فالاعتماد على الذات يعد هدفا سخيفا، وترى أنه حتى الآن لم يظهر الكثير عن معاني الاعتماد على الذات، أو تقدير واقعي متوازن وليس تقديرا يستند إلى الفزع من الأزمة عن مقدار الاعتماد الحقيقي للاقتصادات الغربية الرئيسية على الصين.
فالولايات المتحدة في زمن السلم لم تكن أكثر اعتمادا على الذات كما تحاول دائما أن تظهر نفسها. ووفقا لبعض المؤشرات لم يكن باستطاعة الولايات المتحدة اقتصاديا مد مواطنيها بنوعية الحياة التي يطلبونها من خلال الإنتاج المحلي وحده. فحتى وقت قريب نسبيا كانت الولايات المتحدة تعتمد بشدة على واردات النفط الخام والمنتجات البترولية لإبقاء اقتصادها عاملا، كما هي حال الصين الآن. وحتى بالنسبة لبعض المواد مثل القهوة فالولايات المتحدة اعتمدت على الواردات لسنين طويلة. ولكن في حقيقة الأمر يمكن القول إن الولايات المتحدة أقل اعتمادا على الصين عما يتم تداوله في بعض الأحيان في خطب واشنطن.
وفي حالة مواجهة وباء فبالتأكيد تكون هناك رغبة لدى جميع الدول في أن يكون كل شيء تحتاجه لمكافحة الفيروس متاحا تحت يدها بسرعة للاستعمال، وهو أمر يبدو أيسر حينما يتم إنتاج هذه الأشياء محليا.
وتشير بلومبرج إلى السؤال المهم في هذا الصدد: ما طاقة الإنتاج التي نحتاجها في حرب من هذا النوع وينبغي أن يتم المحافظة على وجودها في زمن السلم؟
هل ينبغي مثلا التخطيط لإنتاج 3.5 مليار كمامة (وهي الكمية التي قدر مسؤولون في واشنطن أن الولايات المتحدة ستكون بحاجة لها هذا العام في حالة كان الوباء شديدا) حينما يكون الطلب العادي أي في غير زمن الوباء هو مجرد نسبة بسيطة من هذه الكمية؟ ولو كان الأمر كذلك، فمن الذي ينبغي عليه تحمل العبء الاقتصادي للطاقة الإنتاجية التي ستكون غير مستغلة في الأوقات العادية؟ دافعو الضرائب؟ أم الشركات؟ أم من؟
وقد أجاب العديد من الأمم الغنية بما فيها الولايات المتحدة لعدة عقود على هذه المعضلة ببناء مخزونات قومية للطوارئ.
ولم تكن المشكلة إذًا هذه المرة هي الافتقار إلى الإنتاج المحلي (فقد سارعت شركات الولايات المتحدة لنفض خطوط الإنتاج الخاملة واستثمرت في خطوط إنتاج أخرى من أجل إنتاج المزيد من هذه المواد المطلوبة)، ولكن المشكلة في أن المخزونات الاستراتيجية كانت تبلغ 35 مليون كمامة فقط حينما انتشر فيروس كورونا.
وكان الجدال الدائر حول الكمامات ومعدات الحماية الشخصية الأخرى جدلا في غير موضعه؛ لأن الصين كانت تعد المنتج الرئيسي لهذه المواد عالميا حتى قبل أزمة كوفيد 19.
والمشكلة الأكبر هي أن البعض لم يكتف بالإشارة إلى إنتاج مواد معينة تتعلق بالوباء، بل تم الإشارة إلى كافة سلاسل الإمداد وتعطلها من صناعات بسيطة إلى صناعات أكثر تعقيدا كالسيارات والطائرات على سبيل المثال. وبينما يمكن التأكيد على أنه سينتج حتما عن الأزمة بعض التغييرات هنا أو هناك، لكن يصعب الوصول إلى أن فلسفة الاعتماد على الذات ستسود وستنتقل سلاسل الإمداد كافة من الصين إلى أنحاء أخرى من العالم كما يتخيل البعض. فقد اتجهت هذه السلاسل بالطبع منذ البداية إلى الصين اتساقا مع رؤية الشركات الغربية وغيرها أن فرص الربحية في الصين أعلى، ولذا يصعب تفكيك سلاسل الإمداد كلها بجرة قلم لمجرد وقوع الجائحة، وتحت شعارات وطنية لا يعرفها رأس المال.
من المؤكد إذًا أن هناك بعض الدروس التي ستساعد على تبني سياسات جديدة تخص بعض الصناعات، لكن ما نرى أنه أمر مستحيل هو الردة الكاملة والتراجع إلى حد تفكيك شبكة العولمة الاقتصادية التجارية والمالية البالغة التعقيد والتداخل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة