بعد ساعات معدودات يدخل العالم عاما ميلاديا جديدا، ومعه تنطلق تساؤلات عن المستقبل، وكيف سيكون شكل هذا العام، وأي منحنيات مفصلية سيحمل للبشرية.
على عتبات عام جديد، تكثر قراءات العرّافين والمتنبئين، والتي يُنظر إليها بوصفها جزءا من الفلكلور الخاص باحتفالات السنة الجديدة، لكن علماء المستقبل والمنشغلين بقادم أيام البشرية يبقى الأمر بالنسبة لهم أبعد من ذلك.
تظل القاعدة الذهبية، التي تحكم الغد، وكل غد، هي أن أفضل طريق للتنبؤ بالمستقبل هو صناعته، ومع المثقف العضوي الإيطالي الكبير أنطونيو غرامشي، ربما ينبغي علينا هذا المساء أن نردد مقولته الشهيرة: "في مواجهة تشاؤم العقل، يبقى تفاؤل الإرادة".
ترك العام الفائت جروحا غائرة في الجسم الإنساني، غير أن الآمال معقودة على من يداوي هذا العام.
أول وأهم حلم إنسانوي للعام الجديد هو نهاية الحرب الروسية-الأوكرانية، من خلال وقف سريع لإطلاق النار، ثم بداية مفاوضات حقيقية بنيّات صالحة لتخليص العالم من كابوس الحرب الكونية النووية، والتي باتت تتهدد الشرق والغرب.
حلم السلام هو الهدف الرئيس للعام الجديد، ويستدعي تحقيقه قناعات الذين لديهم قدرة على إسكات الأسلحة، ووضع حد فوري لهذه الحرب العبثية.
أظهرت الأعوام الثلاثة المنصرمة، وبخاصة بعد جائحة كوفيد-19، أن هناك خطرا حقيقيا يحدق بالبشر، خطر موصول بالجوع، سواء كان السبب توقف سلاسل الإمداد، أو نقص المساحات المزروعة، أو تكريس الموازنات للحروب.
يبدو الجوع عار العالم الحقيقي، وبخاصة حين يُستغل الغذاء كسلاح ضمن أدوات الشر.
هل للبشرية في العام الجديد أن تصل إلى رؤية إنسانوية تكرس الجهود لإنهاء الأزمات الغذائية حول العالم؟
ليس سرا أن موازنات دول العالم العسكرية في 2023 تكاد تصل إلى تريليونَي دولار، وللمرء أن يتخيل كيف يمكن لعام واحد تخاصم فيها البشرية آلة الحرب وأدواتها الجهنمية، وتعكس الاتجاه لتجعل من سيوفها سككا، ومن رماحها مناجل للحصاد، أن يغير الحال فلا يوجد بعد جائع على سطح المعمورة.
في بدايات عام جديد، يراودنا حلم الخلاص من الأسلحة النووية، والكفيلة بتحويل كوكبنا الأزرق إلى كتلة من اللهب، لا سيما بعد أن أخفقت دول العالم في شهر سبتمبر/أيلول المنصرم في التوصل إلى تجديد اتفاقية نزع الأسلحة النووية، فيما يقول الراوي إن هناك مخططات لدول، تمثل القطبية القادمة، تسعى سعيا حثيثا لحيازة بضعة آلاف من الرؤوس النووية عما قريب.
هل عالمنا في عامه الجديد في حاجة إلى نشوء وارتقاء فكرة الحكومة العالمية، التي تحدث عنها الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل بعد الحرب العالمية الثانية؟
تذهب العقول مباشرة، حين يعلو الحديث بشأن تلك الحكومة، ناحية المؤامرة العالمية، ووجود أصابع خفية تحكم العالم، وتوجه دفّته.
غير أن الحقيقة التي لا مراء فيها، هي أن عالمنا المعاصر بات في حاجة إلى منظمات كونية جديدة، تتجاوز الأمم المتحدة، وتقفز فوق بنيتها التكتونية، ولا يعني ذلك عدم الحاجة إليها، وإنما باتت المتطلبات العولمية تقتضي ربما مؤسسات أخرى أصغر حجما وأكثر فاعلية في اتخاذ القرارات التي تجنب البشرية الويلات.
تبدو طبيعة التحولات الاقتصادية العالمية بدورها في حاجة إلى مراجعة للخروج من أسر الرأسمالية والنيوليبرالية، ونظام بريتون وودز، والبحث بجدية عن الطريق الثالث، مع التحوط الواجب لأزمة الديون العالمية، وتجنب إدخالها العالم في دائرة الخطر.
حديث الاقتصاد يقتضي النظر إلى مخاوف الركود العالمي المتوقع في 2023، مع موجات الكساد العالمي، وجميعها يمكن التغلب عليها من خلال مجلس اقتصادي عالمي، هدفه الرئيس استنقاذ البشرية برمتها، وليس الفوز عبر البراغماتية قصيرة النظر، من قبل دولة أو تجمع دول.
يتطلع السائرون في طريق الأنسنة الجديدة إلى حلول غير تقليدية لقضايا ذات طابع وجداني، ومنها قضايا اللاجئين والمهجّرين، ضحايا الحروب والمجاعات، والذين تتقاذفهم الأمواج.
يمكن أن يكون هؤلاء رصيدا مضافا للحضارة الإنسانية، لا خصما منها، غير أن ذلك يقتضي مجابهة سريعة وجادة لواحدة من أخطر الأزمات الرابضة خلف الباب في العام الجديد، أزمة تصاعد التيارات اليمينية المتطرفة، وظهور "مُلّاك الحقيقة المطلقة"، والمجابهة البيزنطية بين أصحاب الحديقة، والمتربصين لها خلف الأسوار.
لقد أظهرت حادثة الاعتداء على المركز الثقافي للأكراد في باريس قبل نهاية العام ما يمكن أن تضحي عليه المشاهد في أوروبا جراء هيمنة متوقعة عما قريب للأحزاب المتشددة إلى حد المتطرفة.
لم يعد بُدٌّ من مانيفستو عالمي لمواجهة خطاب الكراهية، والذي بات ينتشر شرقا وغربا، والعمل على اجتثاث جذوره، من خلال ترسيخ ثقافة التعايش، وتعميق رؤى الحوار الخلاق، وعليهما تُراكِم الإنسانية طبقاتٍ حضاريةً قادرة على صد ورد هجمات العابثين بمستقبل النوع البشري.
يحتاج عالمنا في العام الجديد إلى إسهامات عميقة من رجال الفكر والثقافة والفنون، وتقديم نماذج فنية وأدبية راقية تسمو بمشاعر الناس وترقّيهم إلى مدارات الحس البشري السليم.
وفيما قارب العام الجديد يُبحر بمن عليه، بات حتما أن يدرك الجميع أن صراع الهويات لم يعد له موقع أو موضع، سيما في ظل أزمة التغيرات المُناخية، وها نحن نشهد بعضا من غضبة الطبيعة في صورة عواصف ثلجية وموجات باردة، بعضها يكاد ينبئ بعصر الجليد، بينما الآخر يهدد بانفجار الأرض من قبل الاحتباس الحراري.
مهما يكن من أمر، فإن الإنسانية قادرة على صنع عام جديد سعيد.. إنه وقت التفاؤل وانزياح التشاؤم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة