يعد تمكين المواطنين من خلال زيادة مستوى المعرفة بالشؤون العامة Well-Informed Citizens أحد المداخل المهمة لتحقيق الديموقراطية
يعد تمكين المواطنين من خلال زيادة مستوى المعرفة بالشؤون العامة Well-Informed Citizens أحد المداخل المهمة لتحقيق الديموقراطية. ومما لا شك فيه أن إعلام الخدمة العامة Public Service Media هو أحد الآليات المهمة التي يمكن أن ترتقي بمعرفة ووعي المواطنين، ومن ثم زيادة دورهم في المشاركة السياسية وعملية التحول الديموقراطي في المنطقة العربية، بخاصة في دول ما يعرف بالربيع العربي.
يفترض في إعلام الخدمة العامة القدرة على تقديم مضامين دقيقة، ومتوازنة حول الواقع الاجتماعي والعملية السياسية، وكل القضايا التي يرغب الجمهور في معرفتها، وأن يكون ساحة للنقاش العام، فضلاً عن تمكين أفراد الجمهور من إنتاج وتداول المضامين الإعلامية. لكن إعلام الخدمة العامة في التجارب العربية تحول إلى بوق للسلطة وأداة دعائية لتزييف وعي المواطنين، وقد أدى ذلك إلى تراجع صدقيته وانصراف الجمهور عن متابعته، على رغم زيادة المخصصات المالية التي ترصد له في الموازنة العامة والتي يمولها المواطن العربي، أي أن المواطن العربي يمول إعلاماً حكومياً لا يتابعه ويشك كثيراً في صدقيته، من هنا لا بد من إصلاح أوضاع هذا الإعلام وتحويله إلى إعلام خدمة عامة حقيقي، وهي عملية مرَّت بها كثير من دول أفريقيا وأميركا الجنوبية وشرق أوروبا. ومع ذلك فإن كل التجارب الدولية تؤكد أنه لا توجد وصفة جاهزة لدمقرطة الإعلام وتحويله إلى إعلام خدمة عامة مستقل عن السلطة، كما أن كل تجربة لا بد أن تكيف استراتيجياتها وسياساتها الداخلية للسياقات المجتمعية في كل مجتمع علاوة على الاستجابة الواعية لتكنولوجيا الاتصال والإعلام.
هناك إشكاليات تطرح في مناقشة عمليات التحول من إعلام السلطة إلى إعلام الخدمة العامة أهمها: هل يقود الإعلام عملية التحول السياسي؟ أم أن التحول السياسي ينعكس على النظام الإعلامي وبالتالي يقود إلى تغييره؟ وكيف يتحول الإعلام من نظام يتسم بالشمولية ويعمل لمصلحة النظام السياسي، إلى نظام ديموقراطي يكون الإعلام فيه مستقلاً ويعمل في الأساس لمصلحة المجتمع، ويقوم بدور الوسيط النزيه بين المواطنين والنظام السياسي القائم؟ وهل يمكن للإعلام الخاص أن يعزز أو يعرقل عملية دمقرطة الإعلام والتحول الديموقراطي؟
لا توجد في الحقيقة إجابة نموذجية على كل هذه الإشكاليات، حيث تختلف الإجابة وفقاً لاختلاف النظم السياسية من حيث طبيعتها الأيديولوجية وأوضاعها الاجتماعية والثقافية، ومستوى تطور ومهنية الإعلام فيها، إضافة إلى العوامل التكنولوجية المتاحة التي ربما تؤثر بشكل أو بآخر على النظام الإعلامي، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، وثمة نقاش علمي يدور هنا في شأن تأثير تكنولوجيا الاتصال والإعلام ودورها في التحول الديموقراطي، حيث يرى البعض أنها مسألة حتمية لا يمكن تجنبها أو التحايل عليها، بينما يرى آخرون أن تأثير التكنولوجيا في الاتصال والإعلام ليس حتمياً وإنما هو نتاج تفاعل عوامل اجتماعية وثقافية وسياسية، وقد ظهر ذلك بوضوح في ثورات الربيع العربي حيث قفزت معدلات استخدام الجمهور للقنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن سرعان ما تراجعت معدلات الزيادة كما تراجع التأثير السياسي لوسائل التواصل الاجتماعي («فايسبوك» و»تويتر» في مصر وتونس) وانتشارها في العامين الأخيرين مقارنة بعامي 2010 و2011.
على أي حال هناك أسباب كثيرة تقود إلى ضرورة إعادة هيكلة النظام الإعلامي من السلطوية إلى النظام الديموقراطي في المنطقة العربية لعل أهمها: حق المواطن في الاتصال والإعلام على أسس ديموقراطية تشاركية أو تفاعلية. حق المواطن والإعلامي في إعلام يراعي القواعد والأعراف المهنية. تراجع معدلات استخدام وسائل الإعلام ومتابعتها. فقد ثبت أن أغلب التجارب الدولية التي لجأت إلى إصلاح منظومة الإعلام ودمقرطتها كانت تعاني من تبعية الإعلام للسلطة السياسية والنخبة الاقتصادية، وتعبيرها عن مصالح هذه النخب وعدم التعبير عن مصالح واهتمامات غالبية المواطنين خصوصاً في الريف. الأزمات الاقتصادية التي تتعرض لها وسائل الإعلام، خصوصاً الصحافة الورقية. تنامي قدرات وتأثير الإعلام الخاص ووسائل التواصل الاجتماعي على الإعلام العام التابع للسلطة. ظهور كيانات إعلامية خاصة تعمل بمنطق الربح والخسارة ما يؤثر بالسلب على الإعلام المحلي والمضامين الإعلامية المقدمة، ويخضعها لمنطق الإعلان وتوجهات المعلنين. والمفارقة أن هذا الإعلام الخاص نجح في الاستحواذ على اهتمام الجمهور العربي وأصبح يحقق أعلى نسب مشاهدة ومتابعة إعلامية.
إن مجمل هذه المشاكل والصعوبات التي يعاني منها الإعلام العربي تؤكد ضرورة الإصلاح وإعادة التنظيم، لكن المشكلة الكبرى هي أنه لا توجد رؤية لهندسة عملية التحول وضمان نجاح إدارة مرحلة التحول، بالتالي هناك مخاوف حقيقية ترتبط بالتركيبة السياسية والاجتماعية لنخب الحكم والمعارضة، والتراث التشريعي السابق، ووجود فجوات هائلة بين نصوص الدساتير السابقة والقوانين التي تجسدها أو تفسرها، علاوة على الفجوة بين النصوص القانونية وبين اللوائح التنفيذية والممارسات الفعلية في أرض الواقع.
وتشير تجارب دمقرطة الإعلام إلى أن الرؤى والبرامج التي تم وضعها سواء من النخب السياسية أو من خلال خبراء أجانب لم تصل في النهاية إلى ما هو مستهدف، وإنما تفاعلت مع السياقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وأنجزت بنسب ملائمة هذه النماذج للواقع الذي تطبق فيه. وهذا ما تؤكده التجارب في بولندا وتشيخيا والمجر وبلغاريا وغيرها من الدول التي انتقلت من طور الشمولية إلى الديموقراطية. فالآمال التي ارتبطت بخلق نماذج على غرار محطة «بي بي سي» في مجال الإعلام السمع بصري في دول شرق أوروبا لم تكن مناسبة للواقع الذي ارتبط فيه الإعلام بالسلطة السياسية، وكانت النتيجة تأثر الممارسات الإعلامية في فترات التحول بالثقافة السياسية السائدة، فأصبح التوجه الحزبي سمة في صحافة مرحلة التحول. وظل الإعلام المرئي والمسموع معبراً في شكل أكبر عن السلطة أكثر من تعبيره عن الرأي العام، كما حدث أخيراً وبصورة واضحة في بولندا حيث سيطر فيها نواب حزب الغالبية على هيئات تنظيم الإعلام وإعلام الخدمة العامة. ومع ذلك لا داعي لليأس، فهناك تجارب عدة ناجحة ونماذج مختلفة للتحول في مجال الإعلام منها جنوب أفريقيا وأميركا والبرازيل. وتقدم التجارب السابقة دروساً مستفادة في عملية إنشاء إعلام الخدمة العامة ودمقرطة الإعلام أهمها:
- أن دمقرطة الإعلام ترتبط بعملية التحول الديموقراطي، ولا يمكن أن تنجح الأولى بمعزل عن الثانية، لكن العمليتين لهما أبعاد ثقافية واجتماعية وتتطلبان وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، فضلاً عن نضج النخب السياسية والإعلامية.
- أن تبني نماذج جاهزة أو مستوردة لدمقرطة الإعلام وإعادة هيكلته قد لا تقود إلى نتائج مرضية.
- أن دمقرطة الإعلام عملية طويلة ومعقدة، ولا تحدث بضربة واحدة، أو من خلال إصدار تشريعات وإنشاء هيئات مستقلة بل هناك ضرورة لإجراء مراجعات وتقييمات مستمرة وبما يتلاءم مع أوضاع كل بلد، وظروفه الخاصة، ولكن بما لا يخل بالثوابت المتعارف عليها في التجارب الدولية الناجحة، وأهمها الاستقلال السياسي والمالي والإداري للهيئات المستقلة، سواء هيئات ضابطة للإعلام، أو هيئات للتنظيم الذاتي للعاملين في الإعلام علاوة على أن يكون اختيار أعضاء الهيئات المستقلة موزعاً بين الرئيس والبرلمان والمجتمع المدني ونقابات الصحافة والإعلام.
- ضمان حق الإعلاميين في تنظيم أنفسهم في نقابات أو هيئات مستقلة تدافع عن مصالحهم، وتضع ضوابط للممارسات الإعلامية ومواثيق شرف إعلامي تكون ملزمة في شكل طوعي لأعضاء تلك النقابات.
- ضرورة الحفاظ على إعلام الخدمة العامة كمنبر مفتوح للحوار المجتمعي، ودعمه وتطويره في شكل مستمر، ويتطلب ذلك ضمان مصادر تمويل كافية تتسم بالشفافية والاستقلال عن التدخل الحكومي، وتمثيل كافة مكونات وفئات المجتمع من دون تمييز.
- الالتزام بالقواعد المهنية في الممارسات الإعلامية بحيث تشمل كل الوسائل الإعلامية مطبوعة ومرئية ومسموعة وإلكترونية، وهنا تجدر الإشارة إلى وجود نقاش واسع حول كيفية تنظيم الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت منصات للأخبار والنقاش العام وأحياناً منصات للإشاعات.
- ضرورة ضمان خضوع الإعلام التجاري والإعلانات بأنواعها لنفس المعايير التي يخضع لها إعلام الخدمة العامة في المهنية وحماية النشء واحترام الخصوصية وعدم الخلط بين الإعلام والإعلان، وغير ذلك من الأشكال الضارة بالمجتمع.
- ضمان حق الجمهور في الاتصال والإعلام وفي تشكيل جمعيات للدفاع عن حقوق القراء والمستمعين والمشاهدين.
إن تطوير ودعم إعلام الدولة وتحويله إلى إعلام خدمة مجتمع وضمان حريته هو الهدف الذي يجب أن يحظى بالأولوية ضمن عملية إعادة هيكلة المنظومة التشريعية والقانونية للإعلام العربي في المرحلة الراهنة، لأن إعلام الخدمة العامة - في كل التجارب الدولية - هو الضامن الرئيسي والثابت لإنجاح عملية التحول الديموقراطي، ولإنهاء مظاهر الفوضى واللامهنية والاحتكار والاستقطاب في الإعلام وفي الإعلان. وأشير هنا إلى أهمية تنظيم عمل وكالات الإعلان ووضع قواعد لمنع تغول أو توحش الإعلان على حساب المواد الإعلامية والدرامية التي عانت منها الشاشات العربية في شهر رمضان، ولا يعني ذلك تهميش أو حصار الإعلام الخاص، وإنما على العكس، فإن المطلوب هو التوازن والعدالة بين كل مكونات المنظومة الإعلامية الوطنية، بما يحترم حقوق القارئ والمستمع والمشاهد، ويحقق الحرية والمسؤولية الاجتماعية بعيداً من سطوة رأس المال أو هيمنة الإعلان أو سيطرة الحكومة.
نقلا عن / الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة