والحقيقة أن هنري برغسون كان من سوء حظه أنه رحل عن عالمنا عام 1941، وفرنسا -وطنه- مشغولة بذل هزيمتها التي طالتها على يد النازيين.
في نهاية الأمر، ربما يكون أولئك المتبصّرون من مؤرخي الفلسفة الذين رأوا دائماً أن هنري برغسون هو الأكبر بين الفلاسفة الفرنسيين من أبناء جيله محقين، وبخاصة لأنه في ذلك الزمن - عند بدايات القرن العشرين- كان أكثرهم سيراً على عكس التيار، كان كل ما فيه وما ينبثق من فكره يسير عكس التيار، وينضح بالتمرد على كل ما هو قائم كمعطى قَبْلي، بيد أنه في الوقت نفسه غالى في ذلك إلى درجة أنه لم يجد -ولا وجد غيره- أي غضاضة في أن يكون أول أهم تكريم عالمي له، يقوم في منحه جائزة نوبل للأدب، مع أن اختصاصه ومجال عمله كان الفلسفة لا الأدب، وأنه لم يخض في الميدان الأدبي إلا في شكل عارض وعلى هامش حياته الفلسفية. ومن هنا كان من اللافت أن يرضى بأن تحكم عليه أكاديمية نوبل بأنه أديب، "متجاهلة" كونه فيلسوفاً، أو لعلها اعتبرته -كما كان حال أبي حيان التوحيدي عندنا- أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء.
والحقيقة أن هنري برغسون كان من سوء حظه أنه رحل عن عالمنا عام 1941، وفرنسا -وطنه- مشغولة بذل هزيمتها التي طالتها على يد النازيين الألمان، فلم يكن الالتفات إلى موته كبيراً، أو في حجم نفوذه وتأثيره الفلسفيين على معاصريه، بل ربما لم يتنبه كثيرون يومها إلى أن ذلك العجوز الهادئ الذي مات عن أكثر من ثمانين سنة كان يعتبر بالنسبة إلى الكثيرين أكبر فيلسوف عرفته فرنسا خلال الفترة الانعطافية بين القرنين التاسع عشر والعشرين، ولعله لن يكون من المغالاة أن نقول إنه كان قبل سارتر بزمن، الفيلسوف الذي تُقرأ أعماله كقطع أدبية صرفة، ونقول هذا وفي ذهننا كتاباه الأساسيان "الضحك" و "التطور الخلاق"، الذي اشتهر شهرة كبيرة وقرئ على نطاق واسع وترجم إلى العديد من اللغات رغم حظره من قبل الكنيسة الكاثوليكية.
ولعل هذا الحظر يبدو هنا مستغرباً إلى حد كبير بالنظر الى أن من الصعوبة بمكان فهم سببه. فوفق ما يخبرنا الباحث المصري الدكتور عبدالرحمن بدوي؛ من الواضح أن "معارضة برغسون للنزعة الآلية في تفسير ظواهر الحياة وأسرار الكون يمكن اعتباره عصب الفلسفة البرغسونية". ولعل برغسون يؤكد لنا ذلك بنفسه في تلك المذكرة التي وضعها يوماً برسم ويليام جيمس ليقول فيها -ما يمكن هنا اعتباره غير متناف مع الدين بشكل عام-: "من الناحية الذاتية تراني غير قادر على منع نفسي من أن أعزو أهمية فائقة إلى التغيير الذي طرأ على طريقة تفكيري خلال العامين التاليين لتخرجي في مدرسة المعلمين العليا (...). فلقد كنت بقيت حتى ذلك الحين معتصماً بالنظريات الآلية التي انسقت في تيارها منذ وقت مبكر تحت تأثير قراءاتي لمؤلفات هربرت سبنسر (...). لاحقاً، ولشدة دهشتي، أدركت أن الزمان العلمي، أي الزمان الحقيقي، لا يتصف بالديمومة، وأنه ما كان لشيء في أوقاتنا العلمية أن يتبدل لو أن مجموع الواقع قد انقضى في ومضة (...). لقد كانت هذه النقطة إشارة البدء لسلسلة من التأملات التي دعتني، درجة درجة، إلى نبذ كل ما كان من قبله حتى الآن، وإلى إحداث تبديل في وجهة نظري".
والحقيقة أن ذروة هذا التبدّل لدى برغسون كانت في العام 1907، بعد أعوام من إصدار كتابيه "بحث في المعطيات المباشرة للشعور" (1889)، و "المادة والذاكرة" (1896)، أي حين أنجز وأصدر كتابه التالي والأشهر "التطوّر الخلاق"، الذي اتخذ فيه مذهب التطوّر كأساس نهائي لاتجاهه الفلسفي، ولكنه هنا، على عكس "التطوّريين"، وكما يشرح لنا بدوي نفسه في الجزء الأول من "الموسوعة الفلسفية" "أوّل التطوّر تأويلاً روحيًّا، في الوقت الذي كان أنصار نظريات التطور أنفسهم يقدمون تفسيرات ميكانيكية آلية ومادية (...). ذلك أن برغسون زعم أن أصل التطوّر إنما كان «اندفاعة حيوية» انطلقت من شعور معين، أو بالأحرى من ما -فوق- شعور حاول التغلب على العقبات التي واجهتها المادة، لكي يجعل منها أداة للحرية، وأعاد بالتالي وضع الإنسان في سلسلة المخلوقات "الحيوانية"، واجداً مفتاح تركيبه العقلي في جهازه العضوي الحيوي، لكنه هنا سرعان ما عاد للتفريق بين الإنسان والحيوان تفرقة جذرية، فاتحاً أمام الإنسان منظورات تطوّر روحي حقيقي"، أي بكلمات أخرى، قال برغسون: أن ليس في الكون مخطط محدّد سلفاً كما الحال لدى أصحاب النزعة الغائية، وليس ثمة ما هو متوقع كما يقول أصحاب النزعة الآلية، فالتطور يأتي مباغتاً "في عالم يسير مغامراً"، عالم يُختَرَع ويعاد اختراعه دون هوادة. وبالتالي فإن برغسون هنا إنما يقرّ بوجود قوة خلاقة أنشأت الكون، لتكون ذات فعل حاسم في تطوّره، بيد أن الفيلسوف ترك نصّه من دون أن يوضح فيه ما إذا كانت هذه القوة محايثة للكون أو متجاوزة له، مؤكداً في الوقت نفسه أن ثمة في الكون ما هو أعلى من العقل، الذي هو مجرد أداة للفعل، وليس هذا سوى الوجدان أو الحدس القادر وحده على فهم الحياة وإدراك ما هو متغيّر في الديمومة الزمنية.
مهما يكن فإن برغسون، لم يكن في هذا الكتاب وغيره، «على عكس التيار» لمجرد أنه كتب كتباً حُظرت، أو لأن كتبه الفلسفية اتّسمت بطابع أدبي، بل كذلك لأنه انفرد في ذلك العصر الذي عُرف بعصر العقلانية والعلمانية الطاغيتين، بعودة فلسفية إلى الميتافيزيقا، معتبراً عودته سلاحاً في معركته ضد «النزعة الثقافوية الشكلية»، وبخاصة منها الجانب الذي كان يعلن وراثته لكانط وللكانطية الجديدة، في الوقت الذي خاض معركة طاحنة ضد «الوضعية العلمية»، وضد «النزعة المادية»، وهو في سبيل ذلك عرف كيف يصيغ أفكاره عبر نقده التحليلي للمناهج والاستنتاجات العلمية التي كان لها السيطرة الفكرية في زمنه كما في الأزمان السابقة عليه، مستنداً في ذلك كله إلى علمه الواسع في مجالات البيولوجيا وعلم النفس، كما إلى اهتمامه بأبعاد التجربة الحسية المباشرة وقدرته على تنظيم فكر يدور من حول موضوعة الديمومة الزمنية وتتابع حالات الوعي في ارتباط بالزمان وانفصال عن المكان، وهو في هذا الميدان الأخير عرف بالتأثير الذي مارسه على عدد من أبرز كتاب زمانه ومنهم مارسيل بروست وشارل بيغي، حيث لا يندر بين النقاد من يقول دائماً إن «البحث عن الزمن المفقود»، رواية بروست الأساسية، ليست في نهاية الأمر سوى تطبيق أدبي لنظرية برغسون حول مفهوم الزمن.
غير أن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى اعتبار برغسون مجرد فيلسوف منعزل في برجه العاجي، متأمل على الشاكلة التي قد ترسمه بها آراء أولئك الذين اعتبروه، مثل صمويل الكسندر «أول فيلسوف، منذ هيراقليطس، حمل الزمن على محمل الجد»، بل إنه كان ابناً لعصره، وأتاحت له الوظائف التعليمية التي شغلها أن يحتك مباشرة بالأحداث والأجيال الجديدة، كما أتاحت له زياراته المتكررة إلى الولايات المتحدة أن يوثق علاقاته مع فلاسفتها، ثم بخاصة مع رئيسها ويلسون، حيث تذكر بعض المصادر أن شروحات برغسون أمام هذا الأخير لصورة الوضع الأوروبي خلال الحرب العالمية الأولى، ساهمت في اتخاذ ويلسون قراره بدخول بلاده الحرب. وهو في خضم ذلك كله كان لا يكف عن الكتابة وعن الاقتراب من الميتافيزيقا، إلى حد أن مؤرخي الفلسفة روزنتال ويودين وصفا فلسفته بأنها «تعبير حي عن اللاعقلانية»، وهو ما يؤكده بعض كتبه -الأخيرة بخاصة- ومنها «منبعا الدين والأخلاق»، الكتاب الذي صالحته الكنسية، وجعله -وهو اليهودي الأصل- يعلن انتماءه الإرادي إلى النصرانية، «مهتدياً إلى إيمان البسطاء، إلى إيمان الواعي لا إلى إيمان الفيلسوف»، ومن كتب برغسون الأخرى نذكر كتابين أولين وأساسيين له، هما «المادة والذاكرة» و «دراسة حول علاقة الجسم بالروح»، وهما اللذان كانا قد كشفا باكراً عن تكامل فكره الفلسفي، وأيضاً مهدا الطريق لأبحاث ويليام جيمس التي قادت هذا الأخير -بالتناقض مع استنتاجات برغسون- إلى الواقعية الأميركية المحدثة، ومما يذكر لبرغسون كذلك عضويته في الأكاديمية الفرنسية، واشتغاله فلسفيا على نسبية اينشتاين، وترؤسه ذات مرة للجنة التعاون الفكري التابعة لعصبة الأمم.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة