و لا يزال هذا التواصل الحضاري الراقي بين الصين و إفريقيا يعطي للقوة الصاعدة صورة جميلة في عيون الأفارقة على عكس الصورة القاتمة
نحن الآن في العام 1405 م و نعود في الزمن بأكثر من 600 سنة مضت، أي قبل بداية حملات "كولومبس" الاستكشافية بقرابة تسعين سنة، و بالضبط في أحد موانئ الصين في عهد سلالة "مينغ" القوية، أين يستعد القائد والبحار و الدبلوماسي و الجنرال المسلم العظيم "زينغ هي" (Zheng He) - و اسمه العربي "حجي محمود شمش"- للإبحار في أول رحلة للأسطول التاريخي المعروف باسم سفن الكنز أو أسطول الكنز، الذي كان يحوي أكثر سفن العالم آنذاك تطورًا و أكبرها حجمًا، و الذي أبحر في سبع رحلات ذات صبغة دبلوماسية و تجارية و ترويجية لعظمة سلالة مينغ، شملت أجزاء واسعة من المحيط الهندي بلغت حتى شرق إفريقيا، أين وصل القائد الفذ لسواحل كينيا والصومال ونسج علاقات وطيدة مع سكان تلك المناطق، وتبادل معهم الهدايا الصينية الثمينة بحيوانات إفريقيا الغريبة بالنسبة للصينيين، و أشهرها زرافة من الصومال، وتمت حتى مصاهرات بين جنوده والأفارقة الذين مازال منهم من يفتخر بالدماء الصينية في عروق عائلته على سواحل شرق القارة السمراء.
ولا يزال هذا التواصل الحضاري الراقي بين الصين و إفريقيا يعطي للقوة الصاعدة صورة جميلة في عيون الأفارقة على عكس الصورة القاتمة للرجل الأبيض الأوروبي الذي استعمر و استعبد و استغل و نهب و عذب، و كأن "زينغ هي" كان منذ ستة قرون خلت يمهد الطريق "لجيانغ زيمين" و "هو جنتاو" و الآن "شي جين بينغ" قادة الصين الجدد لدخول القارة السمراء بثقة و بماض مشرف و بوعود بمستقبل مشرق على خطى القائد "زينغ هي" الذي جاب سواحل القارة الشرقية و لم يقتل و لم يعنف و لم يشن حربًا، على عكس ما فعله المستكشفون و القادة الغربيون أمثال الإسباني "كورتيز" الذي أباد عددًا كبيرًا من الهنود و حطم حضارة المايا، والبرتغالي "ماجلان" في جزر جنوب شرق آسيا خاصة الفيليبين، والبريطاني "جيمس كوك" واضطهاده للسكان الأصليين لأستراليا بعد اكتشافها.
عملت الصين وريثة المملكة الوسطى على أن تخرج من نطاقها الآسيوي التقليدي الذي شكل حديقة خلفية لها منذ عهد المركزية الصينية في القارة الآسيوية أين كانت هي محور التقدم العلمي والعمراني والعسكري والثقافي بالنسبة للشعوب المحيطة بها؛ لأن الصين الجديدة أدركت أن اللعب في الحديقة الخلفية فقط لا يليق بمن يرمي لنيل مكانة بين كبار العالم، و ليس هنالك أفضل من القارة الإفريقية كساحة جديدة للنفوذ الصيني، فكل العوامل تشجع على ذلك، بداية بالماضي الأبيض بين الجنسين الأصفر و الأسود، مرورًا بالحاجة المتبادلة للتعاون بين الطرفين مع ما تقدمه القارة من إغراءات ومزايا، وانتهاء بعقيدة التعامل الصينية التي تعد أكثر إنسانية، ولا تقوم على مبدأ المشروطية السياسية والاقتصادية، فعقيدة الصين الوحيدة هي المنافع و الربح و المصالح كانعكاس لبراغماتية رسمها المصلح الكبير "دنغ كسياوبنغ" في مقولته الشهيرة: "لا يهم ما إذا كانت القطة بيضاء أو سوداء ما دامت تصطاد الفئران"، بينما لسان حال المسؤولين الصينيين الحاليين يقول: "لا يهم ما إذا كانت القارة بيضاء أو سوداء ما دامت تجلب المنافع"، و عليه أصبحت إفريقيا اليوم تلقب بقارة الصين الثانية أو قارة الصين الجديدة.
و ترجمت الرغبة الصينية في تطوير العلاقات مع إفريقيا بشكل واضح ومؤسساتي من خلال تأسيس منتدى التعاون الصين إفريقيا (فوكاك) سنة 2000،كي يكون هيكل وإطار تشاور و حوار و تنسيق بين الطرفين، و قد جاء تأسيسه بمبادرة صينية، ولم يتوقف عن العمل منذ تأسيسه على تنفيذ الاستراتيجية الصينية تجاه إفريقيا، فاستمرت اجتماعات المنتدى بشكل دوري أعوام 2003 بأديس أبابا و2006 ببكين و 2009 بمصر و 2012 ببكين أيضًا، و الدورة الأخيرة التي احتضنتها جوهانسبورغ يومي 4 و 5 ديسمبر الجاري، و ساهمت هذه اللقاءات التي تميزت بقدر كبير من الفعالية في إعطاء دفع حقيقي للعلاقات بين الجانبين و التحقيق الميداني لعدد كبير من المشاريع، و بعث ديناميكية غير مسبوقة في علاقات القارة الإفريقية بأي من الشركاء التقليديين كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا الذين قامت علاقاتهم مع الدول الإفريقية عمومًا على الفوقية، حيث لم ينجم عن سنوات التعامل الطويلة مع تلك القوى التقليدية نفس المستوى من التقدم الذي شهدته السنوات القليلة نسبيًّا للتعاملات مع الصين، و قد أكدت مختلف القمم و المؤتمرات المشتركة بين الطرفين في كل مرة على ضرورة التعاون، و تحقيق التنمية و السلام، و ترقية البنى التحتية مثلما جاء في الوثيقتين المرجعيتين للعلاقات الصينية الإفريقية، والمتمثلتين في "إعلان بكين" و "برنامج التعاون الصيني الإفريقي" اللتين أفرزتهما قمة بكين الأولى.
و على عكس الكثير من مبادرات التعاون جنوب - جنوب التي لم تعرف طريقها للتنفيذ، خرجت مبادرة التعاون الصينية الإفريقية عن هذا النسق السلبي، و أصبحت تشكل نموذجًا للتعاون البيني بين دول الجنوب منذ ميلاد المنتدى سنة 2000، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين 73.31 مليار دولار عام 2007 مقابل 10.6 مليار دولار سنة 2000، ووصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 53.14 مليار دولار خلال النصف الأول من سنة 2008، وزادت التجارة بين الصين وإفريقيا العام 2011 في إطار عمل الشراكة إلى 166.3 مليار دولار أمريكي، وهي زيادة تمثل 16 ضعفًا للمستوى الذي كانت عليه سنة 2000، و ارتفع حجم التجارة بينهما عام 2014 إلى 221.9 مليار دولار، لتقارب 300 مليار دولار مع نهاية هذه السنة، و ارتفاع نسبة التجارة بين الطرفين في إجمالي تجارة القارة الخارجية من 3.82% إلى 20.5%، و استثمارات تبلغ في مجموعها 300 مليار دولار، ووجود أكثر من 3100 شركة صينية تنشط في القارة، وهي أكبر وتيرة تطور تجاري تسجله أي من القوى المتواجدة في القارة، و استطاعت الصين سنة 2012 أن تزيح في تطور بالغ الدلالة فرنسا عن مكانتها كشريك أول للجزائر، ودفع كل ذلك بأحد القادة الأفارقة للإشادة بالدور الصيني وتوجيه رسالة قوية للقوى التقليدية خاصة الاستعمارية التي استغلت القارة قبل وبعد استقلالها بقوله: "فلتنظر القوى الاستعمارية لما تفعله الصين في القارة".
و جاءت قمة جوهانسبورغ التي اختتمت أشغالها منذ أيام في ظروف مميزة، خصوصًا ما تعلق بمعاناة الدول الإفريقية من انخفاض أسعار المواد الأولية المعدنية والزراعية والطاقوية في الأسواق الدولية كالنحاس و غيره من المعادن و النفط، مع ما أنجر عن ذلك من تأثيرات سلبية على اقتصاديات إفريقية ريعية بالأساس، مما جعلها تتطلع لتلك القمة وما ستسفر عنه لصالحها، وفي ظل أيضًا انكماش في الاقتصاد الصيني نجم عنه تراجع استثماراتها في القارة بـ 40% خلال الربع الأول من هذه السنة، وتنامي التهديد الإرهابي الذي مس حتى المصالح الصينية في إفريقيا بسبب النشاط الكبير لجماعة بوكو حرام واختطافها لعمال صينيين ومقتل ثلاثة صينيين في الهجوم على فندق بالعاصمة المالية باماكو، وتأثيرات فيروس الإيبولا الذي عطل الوتيرة الاقتصادية، و استمرار النزاعات التقليدية المعروفة في القارة، وتفاقم تأثيرات المناخ على مختلف الدول الإفريقية وما خلفته من موجات هجرة غير مسبوقة.
ويبدو أن الصين لم تخيب آمال الأفارقة حين أعلن الرئيس الصيني في افتتاح أشغال قمة الصين إفريقيا السادسة عن تقديم 60 مليار دولار من القروض المخصصة للمشاريع التنموية بالقارة، تتضمن 5 مليارات دولار من القروض بدون فائدة، و35 مليار دولار بفوائد تفضيلية واعتمادات تصديرية بشروط أكثر تيسيرًا، و5 مليارات دولار رؤوس أموال إضافية لصندوق التنمية بين الصين وإفريقيا، وقرض خاص لتطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة وصندوق التعاون في مجال الطاقة الإنتاجية للصين وإفريقيا برأسمال أولي تبلغ قيمته 10 مليارات دولار، وفي إطار تحقيق السلام في القارة منحت الصين 60 مليون دولار لتمكين الاتحاد الإفريقي من تطوير قدراته على حفظ وبناء السلام، وفتح المجال لأربعين ألف طالب إفريقي للدراسة في مختلف الجامعات الصينية سنويًّا، وتقديم منح لسبعة آلاف طالب كل فصل دراسي، ويدخل ذلك ضمن عشر مخططات تنموية عرضتها الصين على القادة الأفارقة في قمة جوهانسبورغ.
ويمكن القول أن مخرجات القمة بينت بوضوح وجود اتجاه قوي بدأ يبرز داخل القارة السمراء نحو جعل هواها أصفر بعد عقود من التبعية لرجل أبيض بقلب أسود، فالصين تغري اليوم بنموذجها التنموي، فمجرد ابتداع نهج اقتصادي يخالف النهج الغربي في جوانب عديدة كان كافيًا لتطلع الدول الإفريقية نحوه، وتلك إحدى جوانب قوتها الناعمة التي تتدعم بزيادة عدد الطلبة الأفارقة المبتعثين للدراسة في الصين، وما سيحملونه معهم من تقاليد وقيم صينية وحتى ولاء لتوجهاتها السياسية لاسيما وأن كثيرًا منهم مرشح لتولي مناصب سياسية في بلاده مستقبلًا، كما استفادت الصين بعد هذه القمة من زخم الترحيب الذي لاقته من الأفارقة، وهو ما يشكل دعمًا لها في تنافسها مع القوى الأخرى على مؤهلات هذه القارة، و ترسيخ تواجدها أكثر كوحدة تسوق عن نفسها صورة جذابة كقوة صاعدة واعدة و كشريك إنساني لم تتلطخ يداه و لا تاريخه بدماء الأفارقة على عكس بقية المنافسين، وكبديل عن قيود التبعية الغربية، وما تأسيس بنك تنموي مشترك إلا دليل على ذلك؛ لعله يكون مخففًا لما عانته تلك الدول من ويلات المؤسسات المالية العالمية، ولم تكن قمة جوهانسيورغ إلا محطة جديدة في الوصال المستمر والمثمر بين الصين وإفريقيا، وهو الوصال الذي بدأه صديقنا "زينغ هي" قبل ستة قرون ليعطينا درسًا مفاده أن التاريخ لا ينسى ولا يرحم، والأمم كالأفراد تجني ثمار ما زرعته ولو قبل 600 سنة كما يحدث للصين مع إفريقيا حاليًا
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة