هناك جملة من القيم والمُثل والقواعد والمعايير الأخلاقية مستودعة في طبيعة كل إنسان تمثل سلطة ذاتية داخلية
هناك جملة من القيم والمُثل والقواعد والمعايير الأخلاقية مستودعة في طبيعة كل إنسان، تمثل سلطة ذاتية داخلية تمكنه من مراجعة تصرفاته وسلوكياته قبل صدورها وبعد وقوعها، وهو ما يعرف بـ"الضمير"، وهو: "صوت ينبعث من أعماق الصدور آمرًا بالخير أو ناهيًا عن الشر، وإن لم ترج مثوبته أو تخش عقوبته" (الأخلاق عند الغزالي لزكي مبارك ص140). ذلك لأن هناك إدراكًا ضروريًّا أوليًّا حاصلا في الإنسان في أصل الخلقة من غير دليل، ولولاه ما عَقَل هذا الإنسان رسالات ربه، وما تيسر له تمييز الفجور من التقوى والعقاب من الثواب، وهو مأخوذ من قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة:14- 15]، ومن قوله صلى الله عليه وسلم في بيانه عن ماهية البر والإثم: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس".
ولقد تواردت نصوص الوحي على إثبات أن للإنسان حسًّا أخلاقيًّا وضميرًا حيًّا يستطيع من خلاله التمييز بين الباطل والحق والشر والخير والقبيح والحسن، قال تعالى: “إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا”[القيامة: 2-3]، وقال تعالى:(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)[الشمس: 7-8]. وترشد هذه الأدلة إلى وجوب تزكية الإنسان لنفسه وضرورة الرجوع إلى فطرته والعمل على يقظة ضميره. وطريق الإنسان في المحافظة على حياة ضميره وطهارة فطرته يحصل من مراقبة الله تعالى في جميع الأحوال والأقوال والأفعال والحركات والسكنات، وكيف لا؟! والله تعالى أقرب إلى عبده من قرب أبعاض جسده بعضها إلى بعض، قال تعالى: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" [ق: 16]، وهو قرب إحاطة العلم والقدرة لا قرب مسافة ومكان.
والتحقق بمقتضيات مراقبة الله تعالى في السر والعلن ينبع من تحمل الإنسان لمسئولية الحرية التي منحها الله تعالى إياه، وكفلت له كامل الاختيار الحر بين طريق الخير وطريق الشر، وفي بيان ذلك يقول الله تعالى: "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" [الإسراء: 13- 15]. من ذلك تظهر أهمية محاسبة الإنسان نفسه على ما يصدر عنه من تصرفات أولا بأول، ومن ثَمَّ يوقظ وجدانه ويحيي شعوره حتى يستدرك الخطأ فيعمل على تصحيحه.
والتزام الإحسان والعمل بمقتضياته في النية والأفعال والأقوال من محاور التربية الفاضلة الواعية والواقعية، التي أمر الله تعالى عباده باتباعها وسلوك طريقها والتحقق بمقاصدها، وإذا غلبتهم الشهوات وطباع النفس داوموا على التخلي عن الصفات الذميمة والأخلاق السيئة والتحلي بالقيم الفاضلة والأخلاق الحسنة ولا يركنون إلى نقص أو تقصير حتى يبلغوا الكمال المستطاع، قال تعالى:"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ"[النحل: 90]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء". إن للإحسان ثمرات عظيمة تغرس في الفرد حياة الشعور ويقظة الضمير، ومعاملة أفراد المجتمع بالحسنى، مما يجعل بنيان الوطن قويا متماسكا وثيق الروابط والأواصر ووفير التعاون على البر والتقوى، فضلا عما يثمره من تصفية الإنسان لنيته ومراقبته لخالقه في تصرفاته وسلوكياته على جميع أحواله مع الحرص على ملء الوقت بالطاعة والعمل النافع واستواء السر والعلن، ومن ثم تقل أدواء المجتمعات وتعظم مواقعها في كافة المجالات، ومن تخلق بالمراقبة والإحسان في نفسه ومع الناس تجاه ربه، كان جزاؤه من جنس ما عمله، تحقيقا لوعد الله تعالى في الدنيا والآخرة:"هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ" [الرحمن:60].
المقال نقلاً عن صحيفة "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة