بالصور والفيديو.. محمد خان.. فارس المدينة وعاشق ترابها
المخرج محمد خان رحل بعد أن سجل عشقه لمصر والقاهرة وشوارعها وتفاصيلها في كل أفلامه، خاصة "أحلام هند وكاميليا"، و"زوجة رجل مهم" وغيرها.
في كتابه الأخير “مخرج علي الطريق” الذي تصادف أن قدمه العام الماضي عن رحلته وحياته، وكأنه كان يتوقع رحيله يقول محمد خان: “عشقي لمدينة القاهرة يرجع إلى أن حياتي كلها قضيتها في القاهرة، ولم يكن لدينا سيارة، فكنت أذهب إلى مدرستي في حدائق القبة بالأتوبيس، وكان أبي يأخذني كل يوم جمعة لحلاقة شعري ثم نذهب لمشاهدة فيلم في سينما مترو بالذات، وبعدها كان يأخذني لتناول الغذاء في أحد المحلات ثم نعبر الشارع لكي نشتري من محل الأمريكيين قطعة من الكيك لكي نأخذها لأمي.. فكما ترون، حياتي كلها بمدينة القاهرة” .
لذلك لم يكن صعبا أن نجد خان فارسا مغوارا لسينما شوارع القاهرة بواقعيتها وأحلامها ونزقها وإحباطها.. بل هو “فارس المدينة” وهو بالمناسبة اسم واحد من أفلامه يلخص فيه حبه وإحباطاته، بل المدهش أن هذا الفارس الذي عشق تراب هذا الوطن وذاب فيه حتي النخاع لم يكن مصريا ولم يحصل علي الجنسية المصرية إلا منذ عامين فقط وتحديدا في عام 2014 بقرار رئاسي، فهو من أصل باكستاني لكن عشقه لمصر ومدينة القاهرة تحديدا جعله فارسا مغوارا في كشف جروحها والتعامل مع مفردات الحياة فيها وتصوير قسوتها وحنانها ولحظات نزقها ووجعها وألمها علي كل المستويات فكان معها في أحلامها الصغيرة وطموح أبناء وبنات حواريها ومحلات في وسط البلد وعمالها الصغار، وصعاليكها الكبار وفي سلسلة أفلام يصل عددها لأكثر من 24 فيلما لا يمكن أن تتجاهل واحدا منها دون التوقف والتأمل .
نشأ خان في منزل مجاور لدار سينما مزدوجة وكان يرى مقاعد إحداها ولا يرى الشاشة، وكان يشاهد الأفلام في اليوم الأول ويتابع شريط الصوت بتركيز بقية الأيام، إلا أنه لم يكن يحلم يوماً بأن يصبح مخرجاً سينمائياً حيث كانت الهندسة المعمارية هي حلم طفولته، وربما يكشف لنا ذلك جزء من سر التوليفة الآسرة للقلوب لأفلام خان التي جاء معمارها محبوكا وبناؤها خلابا، بدءا من "ضربة شمس" و"طائر علي الطريق" و"موعد علي العشاء" مرورا بـ"الحريف" و"خرج ولم يعد" و"زوجة رجل مهم" و"مستر كاراتيه" وغيرها، وانتهاء بروائعه "أحلام هند وكاميليا"، "بنات وسط البلد"، و"شقة مصر الجديدة"، وأخيرا "فتيات المصنع"، حيث يخرج فيلمه الأخير "قبل زحمة صيف" من اللائحة ويصبح المغامرة الأخيرة بعيدا عن القواعد التي رسمها لفنه الراقي الذي يغوص في أعماق المجتمع .
وفي هذه المجموعة الأخيرة يتشكل ما يمكن اعتباره مزيجا مدهشا من الرومانسية الواقعية في سينما خان.. ففي هذه الأفلام تحديدا سوف تجد ذلك الشجن الرومانسي الذي يسعي لكي يحفر لنفسه مكانا وسط واقع صعب مفعم بالتناقضات.. فلسنا بصدد مجرد مخرج خرج من عباءة ما سمي بالواقعية الجديدة التي ظهرت في مصر أواخر السبعينيات، وترعرعت مع سنوات الثمانينيات، لكننا أمام مخرج رومانسي، للحب عنده قصص كثيرة ومحاور متعددة تؤدي كلها في النهاية إلى الحلم ومقاومة واقع اجتماعي معقد تسيطر عليه التقاليد وتخضع فيه المشاعر للمساومات الاقتصادية.
فإذا كان “خرج ولم يعد” يرصد الفرار من توحش المدينة المتمثلة في العاصمة إلى بكارة الريف التي كانت وبراءته وخيراته مازجا ذلك بقصة رومانسية؛ فإن خان يعود إلي عالمه الحقيقي الذي احترف المبارزة السينمائية في شوارعه ومقاهيه وحواريه في المجموعة الأخرى من أعماله عبر نفس الخلطة الساحرة التي تمزج الواقعية بالرومانسية ومحاولة إيجاد مساحة للحب والحلم رغم الواقع الصعب.
هكذا رأيناه في سلسلة أفلام وسط البلد، العالم المفضل لخان الذي ولد وعاش به، فهو كما يقول من مواليد غمرة وعاش في وسط البلد –في أرض شريف– بجوار العتبة ولذلك يستهويه الانطلاق منه لرصد أحلام ومتناقضات القاهرة الواسعة لاسيما أحلام نسائها البسطاء والمهمشين .
حصد خان عشرات الجوائز عن أفلامه المختلفة مثل "عودة مواطن" و"أحلام هند وكاميليا" و"زوجة رجل مهم" وغيرها، وفي مهرجانات كبرى، وكان يستحقها جميعا لكنها لم تأخذه بعيدا عن مشواره الحقيقي وهو انحيازه للناس الذين عاش بينهم، ولم يسع للمتاجرة بهذا الفلكلور من المعاناة كما فعل البعض أو يصور القبح كما هو كما فعل جانب من مخرجي جيله نفسه مع كل التقدير لهم من موجة السينما الواقعية الجديدة، لكنه كان دائما يقدم صورة جميلة عاشقة لتراب هذا الوطن الذي لم يحمل جنسيته إلا مؤخرا، ورغم ذلك كان أكثر إخلاصا له من كثيرين يتشدقون بالوطنية ليل نهار ويفعلون العكس .
تصادف خروج الإعداد لكتابين خلال الأيام القادمة أحدهما عن محمد خان ذاته خلال مهرجان القاهرة السينمائي في شهر ديسمبر القادم، والآخر يتم الإعداد له عن نجلاء فتحي بطلة واحد من أهم أفلام خان وهو “أحلام هند وكاميليا” خلال أول دورة لمهرجان أسوان في فبراير القادم، وربما يكون الكتابين خير إهداء لخان وبطلته في سنوات عجاف لم تعد السينما تقدم فيها إلا تجارب فردية صغيرة عن مدينة يتلاشى فرسانها يوما بعد يوم ولا يبقى منها إلا مشاهد العشوائيات ومشاهد للبلطجة وتعاطي المخدرات .
aXA6IDEzLjU5LjExMi4xNjkg جزيرة ام اند امز