بمناسبة تكرر أحداث العنف، تذكرت القول الطريف الذى ينسب لسياسى صينى حكيم، فقال: «إنه لم يمر بعد الوقت الكافى لإصدار حكم عليها!».
بمناسبة تكرر أحداث العنف فى الأيام الأخيرة، فى دولة بعد أخري، تذكرت من جديد ذلك القول الطريف الذى ينسب لسياسى صينى حكيم، عندما سئل عن رأيه فى الثورة الفرنسية، بعد مرور أكثر من قرنين عليها، فقال: «إنه لم يمر بعد الوقت الكافى لإصدار حكم عليها!».
يمكن أن يقال هذا أيضا عن أحداث العنف الأخيرة، التى لن نعرف أسبابها الحقيقية ولن نفهم مغزاها إلا بعد مرور وقت أطول بكثير مما نظن، إن الفهم الكامل للأحداث لا يمكن أن يتم فى ظل التهاب المشاعر التى تولدها هذه الأحداث، والأهم من ذلك ما تقترن به هذه الأحداث بالضرورة من محاولات متعمدة لتضليل الناس عن أسبابها الحقيقية، وعندما تكون معظم وسائل الإعلام فى خدمة هؤلاء المضللين، يضعف الأمل فى الوصول إلى الحقيقة إلا بعد وقت طويل، أى بعد أن تخبو المشاعر وتضعف المصالح المرتبطة بهذه الأحداث.
أحب أن أذكر القارئ بحادثين مهمين، وقعا منذ أكثر من خمسين عاما، وكان لهما أثر قوى فى مسار دولتين عظميين، ومن ثم فى العالم كله، أقصد بذلك مقتل الرئيس الأمريكى جون كينيدى فى نوفمبر 1963، ثم عزل الرئيس السوفيتى نيكيتا خروشوف بعد ذلك بشهور قليلة، كان كلا الرجلين يتسم بكل صفات الزعامة: الشخصية القوية، والذكاء، والفصاحة، والجاذبية الشخصية، ومن ثم لعب كل منهما دورا مهما فى تشكيل سياسة بلده، فضلا عما حصلا عليه من شعبية، هل يصدق القارئ أننا لا نعرف حتى الآن من الذى دبر مقتل الأول وعزل الثاني؟ ومن هم المستفيدون الحقيقيون من اختفائهما؟ لا بأس من أن نلاحظ هنا أنه باختفاء هذين الزعيمين، اختفى تقريبا عصر الشخصيات الفذة فى السياسة الدولية، وحلت محلها شخصيات هزيلة نسبيا، أكثر استعدادا لتنفيذ ما يطلبه منها آخرون، لابد أن تأخر الكشف عن الحقيقة فيما يتعلق بهذين الحدثين له علاقة بهذا التغير الذى لاحظناه فى صفات الزعماء، أو بالأحرى الرؤساء الذين يفتقدون صفات الزعيم.
إذا انتقلنا الى الأحداث الجارية، وتكرر أحداث العنف فى بلاد مختلفة من العالم، نلاحظ أمرين يتكرران فى سرد ما حدث ومحاولات تفسيره، الأول تكرر ذكر علاقة مرتكبى أعمال العنف بالإسلام والمسلمين، والثانى الحالة النفسية أو العقلية لمرتكبى هذه الأعمال، فهل هناك يا ترى أشياء أخرى يمكن أن نلاحظها فى هذه الأحداث، قد تنفع فى إلقاء بعض الضوء على المستفيدين الحقيقيين منها، ومن ثم فى تحديد المدبرين الحقيقيين لها؟
هناك مثلا بعض الصفات المشتركة فى الدول التى ارتكبت فيها هذه الأعمال، لقد حدث أشهر أعمال العنف منذ خمسة عشر عاما فى الولايات المتحدة، وهو تدمير البرجين الشهيرين فى نيويورك، ومبنى وزارة الدفاع فى واشنطن، ثم تكررت أعمال مماثلة (وإن كانت أصغر حجما وأقل فى عدد التضحايا)، فى بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وكلها دول تلعب دورا مهما فى تحديد مجرى السياسة الدولية، صحيح أن المسلمين كثيرون فى كل هذه الدول، ومن الممكن العثور على دوافع للغضب أو الانتقام من جانب المسلمين، فى كل منها، مما قد يقوى حجة من يؤكدون علاقة أعمال العنف بالإسلام والمسلمين، ولكن يلاحظ أن فى إسرائيل أيضا مسلمين كثيرين، وأن لدى هؤلاء أيضا دوافع للغضب أو الانتقام، فهل هناك يا ترى دوافع أخرى (غير الغضب والانتقام) لمحاولة التأثير فى سياسة هذه الدول المهمة.
سمة أخرى فى هذه الأحداث هى الغياب الكامل لأى محاولة من جانب أى جهة لها صلة بالإسلام والمسلمين، للإفادة من هذه الأحداث على نحو يحقق أى نفع للإسلام والمسلمين، نعم، معظم مرتكبى هذه الأعمال (أو على الأقل بأسمائهم) لهم صلة بالإسلام، ولكن يلاحظ أنه لم يترك أى واحد منهم ورقة أو رسالة يذكر فيها مقصده بالضبط، وما الذى يغضبه بالضبط فى أحوال المسلمين الحاليين، أو فى طريقة معاملة الأمريكيين أو الأوروبيين لهم، وما يطالب به من أجل التوقف فى المستقبل عن ارتكاب أعمال العنف، ليس هناك أى شيء من هذا، بل صمت تام من شاب أبكم، يقوم بالعمل وكأنه منوم تنويما مغناطيسيا لخدمة قضية مبهمة لا يفصح عنها، بل وقد يقوم بقتل نفسه أيضا، فلا ينتظر حتى يرى بنفسه النتائج العظيمة المترتبة على عمله.
سمة ثالثة تتكرر، وهى أن الشخص الذى ينسب إليه العمل، يختفى بمجرد ارتكاب العمل، إما بأن يقتله رجال الأمن، أو يقتل نفسه.
كم كان من المفيد أن يبقى المجرم حيا، ولو حتى يوما واحدا أو يومين، بعد وقوع الحادث، وكم كان من الممكن أن نشعر بالراحة إذا قرأنا إجاباته على ما يوجه إليه من أسئلة، وكم كان من الممكن أن يؤدى هذا إلى تجنب أو تقليل وقوع حوادث مماثلة فى المستقبل، لا يحدث هذا أبدا، والنتيجة هى ما نراه من تكرار نفس النمط من الجريمة، يوما بعد يوم.
من نتائج هذا أيضا، أننى عندما تكرر وقوع هذه الأحداث، أصبح يصيبنى لدى سماعى بحادث جديد منها، بالإضافة إلى الحزن والشعور بالمرارة، شعور بالملل، إذ يتكرر الأمر بحذافيره ولا يسفر عن أى شيء جديد.
أحيانا يخطر لى التساؤل عما إذا كان شخص كرئيس الجمهورية الفرنسية «هولاند»، أو المستشارة الألمانية «ميركل» لا يعرف أكثر من هذا الأمر، أى أكثر مما تردده وسائل الإعلام؟ وإذا كان يعرف أكثر، فما هو يا ترى هذا الذى يجرى إخفاؤه عنا؟ .
عادت ذاكرتى إلى أيام كان فيها اختفاء المجرم بمجرد ارتكابه الجريمة لا يزال شيئا جديدا علينا، وأصابتنا وقتها دهشة شديدة، هذا هو ما حدث فى 1963، عندما قتل الرئيس الأمريكى كينيدي، ثم قتل قاتله بعد ارتكابه العمل مباشرة، ثم لم تمض فترة طويلة قبل أن يقتل الرجل الذى قتل الرجل الذى قتل الرئيس الأمريكي، ومنذ ذلك الحين، أى طوال أكثر من خمسين عاما، لم يقل لنا أى شيء مفيد عن الأطراف التى فعلت كل هذا.
يقوى كل هذا شعورى بأن وسائل الإعلام أصبحت، أكثر فأكثر، تقوم بدور أقرب إلى التضليل منه الى التنوير، ومن ثم يقوى شعورى بأن الفهم الحقيقى للأحداث التى من هذا النوع، يحتاج أكثر فأكثر الى التخمين، وتغليب اعتبارات المنطق، بدلا من الاكتفاء بتحصيل ما يلقى به إلينا مما يسمى «المعلومات».
نقلًا عن جريدة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة