شهد هذا العام أفول "البليرية" وإذا صدر تقرير لجنة تشلكوت بصدد حرب العراق، فمن المرجح أن يسهم في الأفول النهائي
شهدت القارة الأوروبية خلال الأشهر المنصرمة ثلاثة تطورات مهمة على صعيد علاقتها بالمنطقة العربية وموقفها من القضايا التي تستأثر باهتمام الرأي العام العربي.
التطور الأول هو صعود اليسار «القديم» في بريطانيا وإيطاليا واليونان وبعض دول أوروبا الأخرى، وقبل هذا التحول المهم، كان الانطباع السائد أن اليسار الأوروبي «الجديد» أصبح أسيرًا لـ «البليرية» (نسبة إلى نهج رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير)، بكل ما تمثله من عداء للعرب، واستخفاف بعقولهم وعدوان على مصالحهم.
واستند هذا الانطباع إلى معطيات عدة منها عمليات «التطهير» التي قادها بلير شخصيًّا في بريطانيا ضد القادة المتعاطفين مع العرب ومع القضية الفلسطينية، أو حتى ضد بعض الشخصيات العمالية التي لم تكن تتعاطف مع الفلسطينيين، لكنها كانت تتوخى الابتعاد عن الانحياز المسبق ضد أي من أطراف النزاع العربي-الإسرائيلي.
ومن الأسباب التي جعلت البعض يعتقد أن «البليرية» باقية في بريطانيا وأوروبا، تجرؤ بعضهم على ترشيحه لرئاسة الاتحاد الأوروبي على الرغم من أنه كان ولا يزال معاديًا للمشروع الأوروبي، لكن بخبث وشطارة، فهو كان من الذين عملوا على ضرب المشروع من الداخل على طريقة حصان طروادة.
سبب آخر عمّق الانطباع باستمرار «البليرية» هو الدور الذي أسند إلى بلير في اللجنة الرباعية الدولية الخاصة بالسلام في الشرق الأوسط، فقد كرس تعيينه في هذا المنصب الشعور بمناعته وديمومة الخط الذي سلكه تجاه القضية العربية والصراع العربي-الإسرائيلي.
شهد هذا العام أفول «البليرية» وإذا صدر تقرير لجنة تشلكوت بصدد حرب العراق، فمن المرجح أن يسهم في الأفول النهائي لـ«البليرية» كتيار سياسي انتشر بين أحزاب اليسار الأوروبي، بما في ذلك الأحزاب الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية.
إن خروج هذا التيار من الحياة العامة يعبّد الطريق أمام تحسن في العلاقات العربية-الأوروبية، ويُفسح في المجال أمام صعود قيادات يسارية بريطانية وأوروبية أكثر نقاء والتزامًا بالمبادئ الإنسانية وتجاوبًا مع قضية فلسطين والقضايا العربية الأخرى.
التطور الثاني المؤثر في علاقات أوروبا والعالم العربي، تمثل بالسماح لآلاف المهاجرين العرب بدخول القارة الأوروبية.. صحيح أن هذا التطور تم نتيجة أوضاع مأسوية وبائسة، وصحيح أنه كان من الأفضل بكثير لو بقي اللاجئون العرب في بلادهم، ولو أن «الربيع العربي» لم يقذف بهم إلى أوروبا، لكن هذا لا يقلل من أهمية القرار التاريخي الذي اتخذه الأوروبيون، خصوصًا مستشارة ألمانيا أنجيلا مركل بفتح أبواب القارة أمام مئات الآلاف من المهاجرين.
كما أن الخلفية المأسوية للحدث لا تقلل من أهمية المشهد الأوروبي المرحِب بالمهاجرين، لقد بدا الأوروبيون في هذا المشهد وكأنهم يعيدون اكتشاف القارة ويصلون ما بين حاضرها وعصور التنوير والنهضة.
ولم يكن سهلاً على الأوروبيين قادة وشعوبًا أن يديروا ظهورهم لشلالات التحريض ضد العرب التي غذّتها المنظمات الصهيونية والدعاة الصهاينة، لكن القارة تجاوزت ذلك التحريض واستقبلت المهاجرين، هذا الموقف لن يكون حدثًا عابرًا بين العرب وأوروبا، ومن الطبيعي أن تكون له نتائجه بعيدة المدى.
التطور الثالث تمثل بالتقدم الذي تحققه حملة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، كان القرار الأوروبي المتعلق بتحديد مصدر البضائع المستوردة من إسرائيل، حيث يتاح للأوروبي الامتناع عن شراء صادرات المستوطنات إلى السوق الأوروبية، علامة نجاح لهذه الحملة.
قبل ذلك كانت هناك علامات نجاح أخرى، فاليوم العالمي لتحريك الحملة في عام 2012 شمل نشاطات في 23 دولة، وفي العام نفسه نظمت نشاطات واسعة في 202 مدينة وبلدة في العالم لمناسبة الأسبوع السنوي لتسليط الأنظار على نظام الفصل العنصري في إسرائيل.
وحققت الحملة نجاحات في مجال مقاطعة الشركات التي تخدم مصالح المستوطنين الإسرائيليين، ففي نهاية عام 2011 اضطرت شركة «اجريكسكو» الإسرائيلية أكبر مصدر للمنتجات الزراعية، إلى تصفية أعمالها بعد تحرك نشيط نظمته الحملة شمل مقاطعة نشيطة ودعاوى ضد الشركة، وتظاهرات في 13 دولة أوروبية، وتعدد النشرة الصادرة باسم الحملة نشاطات عدة ناجحة أخرى لا مجال لعرضها في مقال قصير.
تدل هذه التطورات على تحول واضح وملموس لمصلحة العرب وقضيتهم الفلسطينية، فأين يقف الإرهاب والإرهابيون من هذه التطورات ومن النشاطات والأعمال والتحركات التي أوصلت إليها؟ من الأرجح أن المنظمات الإرهابية لا ترحب بهذه التطورات لأنها تزكي وسائل التحرك السلمي، وتوفر الأدلة الملموسة على أن هذا التحرك يحقق نتائج واقعية تفيد بالتالي القضايا العربية.
فإذا نجح اليسار الأوروبي في تحويل التعاون الصادق مع العرب إلى أساس للسياسات التي تعتمدها الحكومات الأوروبية تجاه المنطقة، وإذا تم دمج المهاجرين العرب في دول المهجر وتمكنوا من الإسهام النشيط في صناعة السياسة العربية لهذه الدول، وإذا تصاعدت حركة المقاطعة لإسرائيل وتراكمت وتداخلت هذه التطورات والتأثيرات وبان أثرها على السياسات الأوروبية وعلى العلاقات الأوروبية - العربية، لبطلت مسوغات الإرهاب والإرهابيين.
تتصور الجماعات الإرهابية أنها ستتمكن من إجبار الحكومات الأوروبية على تغيير سياساتها تجاه المنطقة عبر استخدام القوة وأعمال الإرهاب.. إن التاريخ القريب يدلنا على أن هذه المحاولات لم تحقق أهدافها، بل على العكس من ذلك كانت تقود من سيئ إلى أسوأ، وأن الجماعات والحركات المناوئة والمعادية للعرب هي التي كانت تحصد ثمار النشاطات الإرهابية، وأن الذي يدفع الثمن بصورة متنامية العرب المقيمون في أوروبا.
هؤلاء العرب ينقسمون إلى ثلاثة فرقاء رئيسيين: فريق يتعاطف مع الإرهابيين، وفريق يقف ضدهم وضد كل ما يمثلونه، وفريق أكثري ليس له اهتمام أو رأي محدد من قضايا الوجود العربي في أوروبا أو العلاقات العربية-الأوروبية، وفي أكثر الحالات فإن حجم كل فريق من هؤلاء الفرقاء قابل للتغيير وفقًا للمستجدات والمتغيرات.
ففي عام 2006، أجرت مؤسسة «بيو» للاستطلاعات استفتاء بين المسلمين في بريطانيا وفرنسا حول الأعمال الإرهابية ضد المدنيين، فجاءت النتائج أن 15 في المئة فقط أيدوا هذه الأعمال «بقصد حماية الإسلام والمسلمين»، لكن في السنة نفسها أجرت المؤسسة استفتاء ثانيًا عن الموضوع فكانت النتيجة أن التأييد لأعمال العنف ضد المدنيين وصل إلى نسبة الثُلث بين المستفتين.
كانت لهذا الاستفتاء دلالاته من حيث استطلاع الطريق إلى الخلاص من الإرهاب، ذلك أن عدد المقتنعين به قابل للارتفاع والتراجع، وليس راسخًا رسوخًا أبديًّا، إن اندماج العرب المقيمين في أوروبا في المجتمعات الأوروبية سيسمح لهم، كما قلنا أعلاه، بمزيد من المشاركة في الحقل العام، هذه المشاركة جديرة بأن تفتح لهم الباب أمام بذل نشاط مكثف بين أقرانهم من ذوي الأصول العربية من أجل محاصرة دعاة العنف وإنقاذ العرب في الداخل والخارج من اعتناق الإرهاب والعقائد القاتلة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة