في يوم 9/2/1991 مازال شعاع الشمس يلف قلبك بين الاسى والضجروعيون الذئاب الشريرة والقبيحة تسمع صوتها بين دوي الانفجارات ودوي المدافع
في يوم 9/2/1991 مازال شعاع الشمس يلف قلبك بين الاسى والضجر، وعينك ترقب الوجوه، وعيون الذئاب الشريرة والقبيحة تسمع صوتها بين دوي الانفجارات ودوي المدافع، وانتفاض ضلوع الارض من القنابل التي تسقطها الطائرات الاميركية والحليفة فتورق فضاءات الكويت والارض من القنابل اثناء الهجوم البري فتشكل الوهج البديع للحياة بعد انتظار وملل، وتغتسل الاجساد من العياء والارهاق ويغشاك ما يغشاك من الانتشاء، والالم لأن السكون غياب وفقدان وخوف من ان تكون الحرب قد توقفت او هادنت الطاغية فتهتز الكلمات على شفاه الكويتيين الممتلئة بالامل، وتصرخ بداخلك واصلوا القصف، واصلوا ضرب الافعى وتمتلئ الكويت واهلها من فرط النداء والاصرار فتصعد روحك بوحي قلبك في كل قصفة، وتغطي المشاعر في النفوس المترقبة وضربة للتوهان البدائي لجنود الشقاء والطاغية الذين قطعوا الشوارع والطرق بآلاف الحواجز، وشنقوا الدروب، وبثوا فيها الذعر والحداد، ومنعوا وقود السيارات، ثم المياه والكهرباء والهواتف.
مرهقون وجائرون مثل حقيقتهم الباهتة، واضاعوا دم الحياء عند عتبات البيوت بظلام مخابراتهم، ناشرين رماد كراهيتهم بين الايام، وفي كل مكان ويشوهون ضوء الصباح، وقد سرحت لصوصهم لسرقة البيوت كالعناكب القاتلة، وطنين احاديثهم كالبعوض الاسود في شقوق الارض والمستنقعات ومشيت على رجلك الحافية عابرا الفيحاء الى النزهة مغبرا بالاحزان وقلبك مثقل بشوك الالم، وتهتز وصالك من البرد. والمطر المنهمر حاملا خبر اخيك الذي يرن في قلبك، عمتك ماتت، ولابد من الاسراع في دفنها اليوم.
وقبل حلول الليل فصدمتك مئات العيون الحزينة، الغاضبة، تلوك مثلك المرارة ونسيت انهمار المطر، وتعثرت بالتساؤل: كيف ستقوم بهذا العمل والجميع محاصر بهؤلاء الجنود الخائبين وطافت عيناك حول السيارة التي سلمت من الحجز، ولكن بلا تركيز، وخطرت ببالك تلك التي اغلقت عليها قلبك، وكأنها تعيد اليك القو ة والارادة، وتستنهض فيك الصلابة وقد رشت القلب بعطر الشوق والحنان والاندفاع وكأنها تقول لك «غدا سأراك» وبعزم اشد «غدا سأراك» أفقت فجأت وتذكرت انك في وسط الجرح والدمع والجمر والهم.
قلت وكأنك تخاطبه: الموت يأخذ منا كل شيء عنوة ويطفئه الى الابد ونحن أمة عرفت الوانا من الموت فالموت على الاقل راحة للروح المتعبة، وارحم من نذالة القهر ورماد الزيف، قالت : يريدون ان نترك الارض خالية لهم
قلت: يستحيل فهذه الارض تحتضن اباءنا وامهاتنا وفيها بريق عيونهم وضحكاتهم ودموعهم وذكريات البحر والغوص والاسفار البعيدة، وما خلفته اضلاع امهاتنا من القيم وخضرة الايام والاشواق.
ارتعشت لدوي انفجار شديد.. رتبت مرآة السيارة على عجل، واللوعة تشتد بقلبك ففاضت اغنية كنت ترددها دائما.
وبتسأل شو اللي نبي
حبه من ترابك بكنوز الذين
آه يا عراق الطاغية لم هذا الاجرام؟ قتل الصبايا والشباب وترويع الاطفال، وهدم كل ما شيدناه منذ عقود من المدارس، والمستشفيات والعلم والحلم والامل فأي روح مدنسة بوباء الحقد، والتوحش، والغدر، والخيانة للجار الذي لم يرتكب الا المحبة والمساندة لكم في الشدائد حتى الاطفال هذا السقوط في التوحش وكل عاهات هذا العصر من الغدر، والخيانة؟
احسست بدوار في منظر ذلك الجندي الشقي ووقفت عند حاجز التفتيش فاتكأ ذلك الجندي على باب السيارة وتغرس في الوجوه وقبل ان يتكلم بادرته: نحن ذاهبون لاخذ جثة عمتنا المتوفاة، فهز رأسه الذي يخالطه الشيب والبؤس بامتعاض كمن لا يرغب في سماع كلمة الموت، سحب يده واعادها ثانية وكأنه نسي شيئا، طالبا سيجارة فاعطيناه ما طلب، و كنا حريصين على ان تكون علبة السجائر معنا دائما، واعطيناه ما طلب ومشينا على عجل، ولحق بنا مسؤول العلاقات العامة شاب نحيل اضناه الصبر والتعب .
قال: خيرا ان شاء الله
خير نريد اخذ جثة عمتنا، فأوصلنا الى حجرة تفج فيها رائحة الموت وبقايا كراس مهشمة ترسمه ابعاد المأساة والدمار والتفت الى يمينك بحذر والغصة تأتيك متدافعة واحسست بمسؤول العلاقات العامة ممزقا قال هذا ما فعلوه بشباب الوطن مضروبين بالسواطير لا لا تكشف الغطاء فللشهيد جلالة فنفخت بما في صدرك من الاسى واعاصير الغضب.
خسئوا جنود الطاغية لن يطفئوا صفاء الروح، واذ بأحد الشهداء يلبس ثيابا شتوية مخططة بروح الاباء والاصرار، ودعكت عينك من هول المنظر وحوش تفترس السلام والامان وتفتح فم الحقد لكن كان الدمع والدم حلوا في عيون الشهداء وهو آه دم يضيء الطريق، والنصر للوطن .
وكان الشوق والالم المتداخل في افكارك، فطلبت من مسؤول العلاقات العامة سيارة اسعاف فرد عليك بهمس: سرقوا كل سيارات الاسعاف، واستدرك عندي سيارتي الخاصة تفي بالغرض.
أولاد الخنازير وجاءت احدى المتطوعات لغسل الموتى والشهداء رتبت كل شيء ببطء ينم عن عدم دراية بمثل هذه الأعمال، تنهدت بمرارة وقهر وصليتم على الجثة ودسستموها في اللحد.
كانت الشمس متوارية خلف الغيوم يوشها خد السماء والوقت عند العصر ومر عصفور اطلق صرخة حدقت في عيون الاصدقاء وفي عين احدهم دمعة الجرح.. وحريق الالم .. ناديت في داخلك يا كويت ذهب الرمد واتى البلد يا كويت لست وحيدة فالبحر مازال يتدفق والاخبار تتناثر والامل ثابت فقليل من الصمود والدم النازف، فالوطن يقترب من خلاصه وكل شيء يمكن ان يذهب ولكن الوطن باق وشاهد ولن يموت.
نقلا عن جريدة "السياسة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة