حالة مصر مع صندوق النقد الدولي، تثير الحزن والأسي، ولكنها أيضا تثير الكثير من الدهشة، ليس فقط فيما يتعلق بموقف مصر
حالة مصر مع صندوق النقد الدولي، فى الوقت الحالي، تثير الحزن والأسي، ولكنها أيضا تثير الكثير من الدهشة، ليس فقط فيما يتعلق بموقف مصر، ولكن أيضا بموقف الصندوق منها.
مريض يذهب إلى عيادة الطبيب، وهو يترنح من حالة سكر شديد، بل لا يكاد يستطيع أن يقف طويلا على قدميه، وهو أيضا لا يتوقف عن السعال من فرط التدخين، وفى أثناء مخاطبته الطبيب يستمر فى إشعال سيجارة بعد أخري، ثم يقول للطبيب «انقذنى أرجوك، ولابد أن تصف لى حالا العلاج، ليس من أجلى فقط، بل من أجل أولادى الصغار محدودى الدخل!».
الحل واضح وضوح الشمس، ولا يكاد يحتاج الى طبيب من أى نوع، بل يحتاج فقط إلى قوة إرادة، بأن يمتنع الرجل فورا عن شرب الخمر وعن التدخين، قد لا يكفى هذا بسبب طول عهد الرجل بكلتا العادتين الكريهتين، وما تركتاه من أثر على أجزاء جسمه المختلفة، ومن ثم قد يحتاج الأمر فى الغالب، بعد التوقف عن الشرب والتدخين، إلى دواء لهذا الجزء من الجسم أو ذاك، ولكن لا شك فى أن أى دواء يتناوله المريض وهو بهذه لحالة، لا يمكن أن يصلح حاله إلا بعد أن يتوقف عن العادتين اللتين أدتا به إلى هذه الحالة المزرية.
نحن جميعا نعرف أن الاقتصاد المصرى وصل إلى هذه الحالة بسبب تدهور حالة الأمن والسياحة، لمدة تزيد على خمس سنوات، فانخفض الإنتاج والاستثمار، وزادت البطالة، وزاد عجز الموازنة العامة، فزاد الدين المحلي، وتدهور ميزان المدفوعات، فتدهور سعر الجنيه، لم يكن من الصعب فى البداية علاج مشكلة الأمن ومشكلة السياحة، ولكن لم يحدث هذا ولا ذاك، بل حدث ما زادهما تفاقما، وتغيرت الحكومات دون أن يحدث أى تحسن، وتغيرت أسماء المسئولين عن الأمن وعن الاقتصاد وعن السياسة المالية والنقدية، دون أن يحدث التحسن المطلوب، وقال كثير من الاقتصاديين حتى بح صوتهم وفترت عزيمتهم، إن تحقيق الهدوء والسلام فى الشارع المصري، وعلاج مشكلة السياحة لا يحتاجان إلى معجزة، بل هناك ما يمكن عمله إزاءهما، وأن من الخطأ زيادة الإنفاق على مشروعات غير مهمة وغير عاجلة، فى ظل الحالة الراهنة من توقف الإنتاج وتدهور الاستثمار، المحلى والأجنبي، وانتشار البطالة، ولكن لم يستمع إليهم أحد، بل لم يعن أحد بالرد عليهم، والآن يقول المريض إنه يجب أن يذهب حالا إلى الطبيب، وحاله كما وصفت، فى أشد ما يشعر به المرء من الأسي، وما أشد ما يثيره هذا من الدهشة.
ولكن موقف الطبيب ليس أقل غرابة، لقد قبل الطبيب (أى صندوق النقد الدولى) استقبال المريض وهو بهذه الحالة، وقد يقال إن هذا أمر طبيعى ومفهوم، فهذه مهمة أى طبيب على أى حال، ولكن يجب أن يثير هذا فى حد ذاته انتباهنا، إذ يلفت نظرنا أن هذا الطبيب، باتخاذه هذا الموقف، لا يكون بعيدا عن الشبهات، إن الصندوق يتعلل عادة فى مثل هذه الحالات بالقول إنه «لا يتدخل فى الشئون الداخلية للدول»، وهو قول غريب، لأنه لا يلبث بعد هذا أن يتدخل فى أخص الشئون الداخلية للدول، كالإصرار على رفع الدعم أو تخفيضه بشدة، وتخفيض الإنفاق على الخدمات العامة، وتخفيض سعر العملة، بل يصر على «الخصخصة»، ويتظاهر (أى الصندوق) بأنه لا يدرى ما يمكن أن يفعله كل هذا بمحدودى الدخل، أو يقترح أشياء لمصلحة محدودى الدخل (كشبكات الحماية)، وهو يعرف جيدا أن ما يطبق منها لا يكفى بالمرة، وأن الفساد الشائع يجعل مثل هذه «الشبكات» عديمة الأثر تقريبا، أو يدعو الصندوق الى استبدال الدعم النقدى بالدعم العيني، (لأن النظرية الاقتصادية تقول إن هذا أفضل)، بينما يعرف جيدا أنه ليس هناك من طريقة عملية لحصر من يمكن أن يعطى له الدعم النقدي، أو الوصول إليهم، الصندوق إذن يعرف جيدا ما سوف تنتهى إليه توصياته اذا أخذ بها، ولكنه يتظاهر بأنه لا يعرفها، ويتخذ سمت الطبيب الوقور المحايد وهو يصف دواء يعرف جيدا، وهو يرى المريض بهذه الحالة، أنه لن يؤدى الى الشفاء مادام المريض لم يتوقف عن شرب الخمر والتدخين.
ولكن من أكثر الأشياء مدعاة للأسى والدهشة، أن الطبيب، أمام هذه الحالة، ينصح المريض باستئصال إحدى الكليتين! لماذا يا رجل؟ الكلية منهكة حقا، بسبب السكر والتدخين، ولكنها مازالت تعمل، ومن الممكن علاجها دون حاجة إلى استئصالها، ولكنى بصراحة أشك فى أن الطبيب له علاقة مشبوهة ببعض المشتغلين بتجارة الكلي، إنى أقصد بهذا إصرار صندوق النقد الدولى على «الخصخصة»، فهو علاج أشبه فى رأيى باستئصال جزء منهك من جسم المريض، ولكنه قابل للعلاج، بشرط التوقف ابتداء عن كل ما تسبب فى إنهاكه.
القطاع العام فى مصر فعلا فى حالة يرثى لها، لأسباب قديمة وحديثة، أما القديم منها فيعود إلى اللجوء فى الستينيات إلى تأميم ما يجوز وما لا يجوز تأميمه، لأسباب سياسية وليست اقتصادية، كما يعود إلى إرهاق المشروعات التى كان من المقبول تأميمها، بعمالة زائدة على الحاجة بسبب ضعف النمو بصفة عامة، الذى يعود بدوره إلى عوامل خارجية وأخطاء داخلية، ولكن أسباب ضعف أداء المشروعات العامة فى مصر لا تختلف كثيرا عن أسباب متاعب القطاع الخاص واحجامه عن التوسع والاستثمار، علاج القطاع العام ممكن إذن بنفس الأدوات (تقريبا)، التى يحتاجها تنشيط القطاع الخاص وتشجيعه: إدارة حكومية رشيدة، استقرار قانونى وسياسى، احترام القانون، محاربة الفساد، ترشيد السياسة التعليمية بحيث تصبح فى خدمة الاقتصاد وليست عبئا عليه، وعدم تبديد الانفاق الحكومى على ما لا ينفع، لا ينفع القطاع العام ولا الخاص..الخ، بعبارة أخرى لابد أولا من الإقلاع عن الخمر والتدخين، والطبيب الذى لا ينصح بذلك من البداية لا يستحق اللجوء إليه.
نقلًا عن صحيفة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة