لا يحتاج المرء إلى كثير من الذكاء ليتوقع ما ستتفتق عنه عقول جماعة «الإخوان المسلمين» وتابعيها من اتهامات بعد الانقلاب التركي
لا يحتاج المرء إلى كثير من الذكاء أو قدرات التحليل ليتوقع ما ستتفتق عنه عقول جماعة «الإخوان المسلمين» وتابعيها من اتهامات بعد الانقلاب التركي، والمنصات الإعلامية التي ستطلق هذه الاتهامات ضد الإمارات وقادتها، والأشخاص والجهات التي سيُزعم أنها شاركت في التخطيط للانقلاب وبعثرت الأموال ذات اليمين وذات الشمال لإغراء الانقلابيين بإطاحة حكم رجب طيب أردوغان.
أصبح هذا الأمر مملاً لفرط تكراره، ومثيراً للرثاء والسخرية لفرط تهافته وافتقاره إلى أدنى مقومات التماسك والإقناع. فموقع «ميدل إيست آي» هو نفسه الذي يخرج بعد كل حادثة ليوجه الاتهامات إلى الإمارات، وعبدالله النفيسي هو نفسه من يكرر التعبيرات والاتهامات ذاتها حرفياً، بمعدل مرة كل شهرين، سواء كان الموضوع هو «عاصفة الحزم» في اليمن، أم مؤتمراً لحركة «حماس» في غزة، أم قضية فساد في العراق، أم تعاقداً دفاعياً في مصر. ومحمد دحلان هو المتهم الدائم القادر على أن يكون في قلب أفريقيا وأدغال الأمازون وجبال القوقاز وكهوف أفغانستان وجليد سيبيريا في اللحظة ذاتها.
لم يعد الأمر مسلياً على الإطلاق، لكن الإفلاس الفكري وخداع الذات، الذي يمارسه «الإخوان المسلمون» وتابعوهم، يصوِّر لهم أن هذه الزوابع الجوفاء يمكن لها أن تخدع أحداً، أو أن تكرار الأكاذيب يمكن أن يحولها إلى حقيقة، وفقاً لمنهج الدعاية النازية، من دون أن ينتبهوا أولاً إلى أن المصير الذي لاقاه واضعو هذا المنهج كان فاجعاً، وثانياً إلى أن هذا الأسلوب لم يعد يصلح في الوقت الحالي، الذي تغيرت فيه قواعد اللعبة الإعلامية بصورة جذرية.
أن تجد عشرات المواقع المشبوهة والوجوه الغبراء تتناقل خبراً عن وسيلة إعلام واحدة تنسبه إلى «مصادر» مجهولة، لا يجعله أكثر من كذبة وقحة ينصرف عنها الجمهور، الذي أصبح قادراً على الوصول إلى المصدر الأصلي والحكم عليه بفعل ثورة الاتصالات الهائلة. ولن يُجدي كثيراً أن يمارس هؤلاء الناقلون تدليساً بوصفهم المصدر الذي استقوا منه الخبر بأنه «موقع بريطاني استخباراتي» كما فعل عبدالله النفيسي، فمثل هذا التفخيم المضلِّل لا يلبث أن يتلاشى كفقاعة حين يتضح أن «المصدر الاستخباراتي» ليس سوى «ميدل إيست آي» ببضاعته المعتادة في التلفيق والاصطناع، وصلاته الوثيقة بجماعة «الإخوان المسلمين».
كان «الإخوان» وأبواقهم في مختلف الدول العربية في حاجة إلى صفعة بحجم حديث السفير التركي، الذي أشاد فيه بدولة الإمارات العربية المتحدة، وبموقفها الداعم للشرعية الدستورية في تركيا، وبحرص بلاده على تعميق التعاون مع الإمارات في مختلف المجالات، لكي يدركوا ما وصلوا إليه من تخبط وفقدان للاتجاه. وعلى رغم أن سوءاتهم بدت واضحة لكل ذي عينين في هذه الواقعة وفي وقائع أخرى سابقة، فليس متوقعاً أن يثنيهم ذلك عن إعادة الكرة من جديد، لأنهم يتعامون عن الحقائق وينكرونها، ويرفضون الاعتراف بواقع انهيارهم فكرياً وتنظيمياً، ويفضلون العيش في عالم من أوهامهم التي يذكيها الضعف والفشل.
لم يفكر عبدالله النفيسي، على سبيل المثال، في أن يعود إلى تصريحاته وتغريداته خلال عام كامل، دأب فيه على محاولات عبثية لزرع الشقاق بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، في الوقت الذي كان فيه أبناء القوات المسلحة في الدولتين الشقيقتين يخوضون ملحمة على أرض اليمن من أجل استعادة الشرعية وإنهاء الاجتياح الحوثي. ومثل هذه المحاولات لا يمكن تفسيرها إلا بأنها تسعى إلى إضعاف التحالف العربي في لحظة مصيرية، وأن النفيسي وأشباهه يلعبون الدور الذي لعبه «المرجفون في المدينة» على عادة «الإخوان المسلمين» في تفريق الصف وتشتيت الكلمة. أليسوا هم من أيدوا احتلال صدام حسين للكويت عام 1990، الذي كان فاتحة للتدخل الأجنبي في المنطقة ومقدمة لمصائب لا تزال تتربص بالأمة العربية؟
لن تتوقف محاولات «الإخوان المسلمين» ومن يحالفونهم للنيل من دولة الإمارات، إذ تمثل النموذج المناقض لما يريدونه للمنطقة. والاستقرار السياسي الذي تعيشه الإمارات ووحدة الكلمة والصف والتجربة التنموية التي يتطلع إليها العالم بتقدير، والرعاية التي تقدمها الدولة لمواطنيها، والإنجازات الاقتصادية والعلمية والحضارية المتوالية... كل هذه العوامل تناقض البيئة التي ينشط فيها «الإخوان المسلمون»، إذ يتعيشون على أجواء الشقاق والصراع والاضطراب السياسي والحرمان الاقتصادي والإخفاق في تلبية حاجات المواطنين، وبدلاً من أن يتكتلوا لمواجهتها والتغلب عليها فإنهم يسعون إلى استغلالها للتسلل وبث دعاياتهم المغرضة وإضعاف سلطة الدول، ليتمكنوا من القفز عليها حينما يجدون الفرصة سانحة لذلك.
«الإخوان المسلمون» يكرهون دولة الإمارات لأنها نموذج للنجاح، ويبحثون عن أية فرصة لاختلاق التهم وشن الحملات التي تنفس عما يعتمل في صدورهم، ولا يراعون حتى أن يكون خطابهم في هذه الحملات متسقاً أو منسجماً، ولذا تكثر الثقوب والتناقضات في ما يحوكون من مزاعم. وفيما يخص مواقفهم من أردوغان بصورة خاصة، كانت فاضحة لانتهازيتهم واضطرابهم وغياب المعايير لديهم، إذ كانوا جاهزين للشيء وعكسه، وللموقف ونقيضه، في حين أن أردوغان نفسه لا يراهم أكثر من ورقة يستخدمها حينما تقتضي مصالحه ذلك.
لقد امتدح قادة «الإخوان المسلمين» تجربة فتح الله غولن، ورفعه كثير منهم إلى مراتب التقديس، وحين اتخذ أردوغان من الانقلاب ذريعة للقضاء على غولن وجماعته فإن «الإخوان» لم يجدوا غضاضة في أن يطالبوا برأسه ويلصقوا به وبجماعته كل السيئات. ألم يكن «الإخوان» هم من ثاروا على الرئيس جمال عبدالناصر بعدما سمي «مذبحة القضاة» سنة 1969، التي شملت إعفاء مئتي قاضٍ، بعد محاولة بعضهم إدخال القضاء في اللعبة السياسية؟ وهم أنفسهم صمتوا على ما فعله الرئيس المخلوع مرسي حين حاول «أخونة» القضاء بعد تسلمه الحكم، وهم أنفسهم أيضاً لم يصدروا أي تعليق على حملة أردوغان على القضاء التي طاولت نحو 3 آلاف قاضٍ، اتهمهم بالتمرد بعد ساعات فقط من محاولة الانقلاب! فكيف لهؤلاء أن يؤخذ أيٌّ من مواقفهم أو ادعاءاتهم مأخذ الجد؟ وكيف لهم أن ينسبوا انتهازيتهم وتناقضاتهم وسوءاتهم إلى الإسلام بكل سموه وجلاله؟
إن دولة الإمارات العربية المتحدة تنطلق من رؤية ثابتة، مفادها أن الجماعات التي تتستر بالدين لتحقيق أهداف سياسية تمثل خطراً بالغاً على استقرار أية دولة تنشط فيها، وأن هذه الجماعات، وبخاصة جماعة «الإخوان المسلمين»، تحمل في بنيتها بذور التعصب والعنف والإرهاب والطائفية، التي تستشري الآن وتهدد أمن المنطقة ودولها. ولا تقبل دولة الإمارات أية مساومة أو تنازل في هذا الإطار، ومواقفها في ذلك معلنة ومعروفة للجميع. وجماعة فتح الله غولن في التحليل الأخير ليست إلا فرعاً من فروع «الإخوان المسلمين»، وهي ترتبط بهم بأوثق الأسباب فكرياً وتنظيمياً، وغولن نفسه كان حليفاً وثيقاً لأردوغان وأستاذاً له. ومثل هذه الحقيقة تجعل تعاون الإمارات مع غولن ضرباً من المستحيل، لأنها تتناقض مع ثوابت إماراتية لا يمكن التخلي عنها. هذا لمن أراد أن يتوخى الحقيقة، على رغم وضوحها ونصاعتها، أما من أعمتهم الكراهية والأهواء فليس للحقيقة إلى قلوبهم وعقولهم من سبيل.
نقلًا عن صحيفة الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة