قال: «لا أعرف ما إذا كان يمكن أو لا يمكن عودة سوريا موحدة مرة أخرى»، لافتاً إلى أن سوريا لن تبقى على وضعها الذي كانت عليه قبل خمس سنوات
في محاضرة ألقاها جون برينان مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) في منتدى أسيين الأمني السنوي في ولاية كولورادو؛ قال: «لا أعرف ما إذا كان يمكن أو لا يمكن عودة سوريا موحدة مرة أخرى»، لافتاً إلى أن سوريا ربما لن تبقى على وضعها الذي كانت عليه قبل خمس سنوات. وقد حمل كلام برينان كثيراً من التأويلات، ورأى محللون أن ما أثاره يعني أن المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة لن تقتصر على سوريا، إنما تأتي ضمن إعادة رسم شرق أوسط مختلف عبر «سايكس بيكو» أمريكية - روسية جديدة. وقد كثر الكلام مؤخراً عن خطط دولية جديدة لتقسيم المنطقة، بالتزامن مع الأحداث الأليمة التي تشهدها دول عربية عديدة، ورغم خطورة ما يجري، إلا أنه لا يمكننا إلقاء تهمة التآمر على الدول الأخرى من دون القيام بتحري ما يجري على أرض الواقع. وكان ما سمّي ب «الربيع العربي» شرارة لقيام أحداث مهولة في بعض الدول العربية، فقد خرج شيطان التطرف والطائفية ليعيث فساداً في العراق وسوريا ومصر وليبيا وتونس واليمن، وتبين أن هناك مشكلة قد ظهرت، وتتعلق بهويات جديدة راحت تتخلق من رحم الفوضى والخراب. والصراعات التي انفجرت فجأة في بعض الدول العربية، كانت تتبلور منذ عشرات السنين، حتى وصلت إلى لحظة إعلان الحقيقة، لكن ترى، ما هي العوامل الحقيقية التي أوصلت العرب إلى هذا المصير المظلم والمرعب؟!
الواقع أن شريحة كبيرة من النخب تلقي باللائمة على اتفاقية سايكس بيكو التي وقعتها بريطانيا وفرنسا بشكل سري عام 1916؛ لتقسيم الأراضي العربية التي كانت بيد العثمانيين عند اندلاع الحرب العالمية الأولى. لكن في حقيقة الأمر، لم تكن تلك الاتفاقية هي سبب آلام هذه الأمة، بل إن السبب يرتبط بالعناصر الأجنبية ، خاصة التركية التي تسللت، على حين غفلة، إلى مفاصل الدولة العباسية، ومن ثمّ سيطرت عليها، حتى تحول الخليفة العباسي إلى ألعوبة بيدها، ومن ثم تم إقصاء العرب بالكامل عن الحكم، في فترات لاحقة من التاريخ، وخاصة خلال دولة المماليك التي حكمت وسيطرت على مصر والشام والجزيرة العربية لفترة طويلة من الزمن. وبعد انتهاء دولة المماليك على يد العثمانيين لم يتغير الحال، فقد استمر تهميش العرب وبشكل مكثف، في الوقت الذي أعلن فيه العثمانيون حكم البلاد العربية التي في أيديهم باسم الإسلام، وهكذا تم تغييب العقل العربي لفترة طويلة من الزمن، فانعدمت الفلسفة، وتراجع الفكر، وتركز التأليف على قضايا الفقه والعقيدة فقط وأخبار السلاطين التي تضمنتها كتب التاريخ التي تؤرخ لتلك المراحل.
وعندما سقطت الدولة العثمانية، كان معظم البلاد العربية قد وقع تحت سيطرة الدول الاستعمارية الأوروبية، وبعد زوال الاستعمار الأوروبي في النصف الثاني من القرن العشرين، حدثت ثورات وانقلابات عسكرية جاءت بعناصر عربية إلى الحكم لأول مرة منذ نحو 800 سنة، إلا أن تداعيات تلك المراحل المظلمة من التاريخ العربي لم تنتهِ بشكل كامل، بل ظلت تتجذر عمقاً في وجدان الشعوب، حتى سمحت لها الظروف التاريخية بالظهور بدءاً من عام 2011، أو ما سمّي زوراً «الربيع العربي»، ففي ذلك العام المؤلم انفجرت براكين الغضب باتجاهات متعددة، وبات مخزون السنين العجاف من التاريخ يطغى منذ أول لحظة، فقد برز التطرف كعنوان طاغٍ، وكأن ما فعلته الحكومات الوطنية في ميدان التعليم طوال السنين منذ الاستقلال، لم يكن له أثر يذكر، فقد أظهرت جحافل الإرهابيين عمق المشكلة في هذه الأمة، فهؤلاء لا يريدون إصلاح أوطانهم ولا تطويرها، بل يريدون النكوص بالأمة إلى العصور السالفة وبما يزيد من التخلف والجهل. وما يدعو إلى الأسف أن التيارات الفكرية والإيديولوجية التي نجحت في إرساء دعائم الدولة الوطنية منذ عهود الاستقلال، قد تراجعت تاركة المجال أمام المتطرفين ليطرحوا أفكارهم العبثية حول رفض الدولة الوطنية الحديثة باعتبارها نتاجاً غربياً لا يمكن القبول به. ولا شك أنه من الخطأ التسليم بمقولات أولئك القابعين في مجاهل التاريخ.
إن ذلك التاريخ الطويل من حكم الغرباء لأوطاننا والذي تم فيه إعلاء ظاهرة التدين، لا جوهره الحقيقي، وتغييب العقل، مازال يقف حجر عثرة أمام مسيرة نهوض الأوطان العربية. فبين من يحلم بإنشاء دولة الخلافة والعودة بالتاريخ ألف سنة إلى الوراء وتحطيم كل المنجزات التي تحققت في ظل الدولة الوطنية، وبين من يريد أوطاناً عصرية تأخذ بأسباب العلم، وتتجه لتحقيق تنمية مستدامة، فإن هذه الأمة ذاهبة نحو المزيد من التفكك والضعف، وإذا كان ثمة مشروع تقسيم جديد، فهو حتماً من صنع أبناء هذه الأمة.
برز التطرف، وكأن ما فعلته الحكومات الوطنية في ميدان التعليم منذ الاستقلال، لم يكن له أثر يذكر.
نقلًا عن صحيفة الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة