خطاب الريبة قاصر عن فهم التجديد المطلوب وشروط الإبداع
الخطاب يبدأ بإقرار الحاجة إلى التجديد، تتبع الإقرار إشارة، هي بمثابة تحذير من طبيعة التجديد، يليها تأطير حدود التجديد
لاريب أن مقولة "تجديد الخطاب الديني" في الوعي الإسلامي المعاصر تبدو مستفزة، وربما تثير الريبة والشك لدى بعض علماء المسلمين، أو على الأقل تدعو بعضهم إلى التحفظ وتوخي الحذر؛ مما يظنونها متاهات، أو منزلقات تغريبية، قد تؤدي إلى خلخلة الثوابت الإيمانية، وزعزعة أركان الدين الحنيف، ومن ثم التطويح به في مجاهل "العلمانية الكافرة"، التي شاعت -كمصطلح- في الخطاب الإسلامي الراهن؛ باعتبارها مرادفًا للإلحاد والتحلل من كل القيم الدينية والأخلاقية؛ رغم أن المصطلح الإنجليزي مشتق من العَالَم أو الكون أو الدنيا، وهو يعبر عن مذهب فلسفي، اجتهد أهله في إطار الارتقاء بإنسانية الإنسان، الذي كرمه الإسلام، كما لم تفعل الأديان الأخرى، سواء السماوية منها أو الوضعية.
ولكنْ، من تسطيح الأمور أن نعزو الريبة بمقولة التجديد، إلى السياقات التي وردت فيها منذ مطالع القرن الماضي، وبخاصة في العقود الستة الأخيرة، حتى لو وردت بمجملها في سياقات صراعية، أو كانت تبرر الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة؛ كطريق للحداثة والمدنية، أسوة بالتجربة الغربية، فالحذر أو الريبة المبطنة في الخطاب، تتمظهر بوضوح ساطع، رغم الحذلقة اللغوية التي تتدثر بها، مثل القول: "لا أحد ينكر أننا أصبحنا بحاجة ماسة إلى التجديد في خطابنا الديني، الذي نقصد به استخدام الحجة الدينية في الحكم على ما يستجد للمسلمين في حياتهم المعاصرة، لكن تجدر الإشارة إلى أن هذا التجديد في الخطاب الديني لا يكون في ثوابت الدين وأصوله ولا في العقيدة، إنما يكمن في تطوير لغته وآلياته والمطالبة بأخذ كل ما هو جديد لمواكبة الواقع المعاصر والتغيرات الحادثة والمستجدات المستمرة، وما يحيط بها من تحديات، أو بمعنى آخر أن التجديد الذي نقصده هو تجديد في الآليات والوسائل بعيدًا عن المساس بالثوابت المتمثلة في القرآن الكريم وسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، فالمراد هو الفهم الجديد القويم للنص، فهمًا يهدي المسلم لمعالجة مشكلاته وقضايا واقعه في كل عصر يعيشه، معالجة نابعة من هدي الوحي".
الخطاب يبدأ بإقرار الحاجة إلى التجديد، تتبع الإقرار إشارة، هي بمثابة تحذير من طبيعة التجديد، يليها تأطير حدود التجديد، ومن ثم استطراد لتوضيح التجديد، مشفوع بتأكيد التأطير؛ لينتهي إلى البعد المريح للتجديد، كما يجب أن يكون؟ ولكن لا يتوضح وهن الخطاب وهزالة تراصفاته الكلامية، حيث تظهر الريبة والشكوك الدالة على ما هو أبعد من الحيطة أو الفطنة، إلا عندما يأتي مردوفًا بالقول: "لم يفهم أحد من العلماء الأولين أو الآخرين أن تجديد الدين يعني تميعه أو إتاحة العبث بالنصوص والأصول لكل متهجم". هنا يتكشف ما يستبطنه الخطاب، ويضيء على الحكم المسبق، بالشك في نوايا الآخر، وهو حكم يأسر العقل، ويحول دون تفعيله في البحث وتحصيل المعرفة، عندما يتكئ الخطاب على مخاوفه، التي تدفع به إلى الشلل، مثل القول: "نظرًا لوجود بعض الأدوار السلبية والأفكار الشاذة التي علقت بقضية التجديد والتي تتمثل في وجود بعض الأصوات التي تحمل بعض الأفكار الشاذة".
وعلى هذا المنوال، تلتقي جميع مضمرات الخطاب الإسلامي - الموسوم بالاعتدال والوسطية - في دائرة الهواجس البريئة، القائمة على بنية الريبة والتشكيك، إلا أنها في الواقع، هي هواجس مشبعة بالعجز والقصور ليس إلا.
إن هذه الريبة الفضفاضة، لم تعُد مبررة أو مفهومة؛ كونها تذهب بالدلالة إلى أبعد من السياقات التي كانت ترد فيها مقولة التجديد في السابق، وقد تؤشر بمعنى من المعاني، إلى قصور في العقل، وخوف مبطن من مغادرة صورة الماضي الزاهي؛ رغم ما لحِقَ بها من غبار، استحال في بعض الحالات، إلى عار وشنار، كما هي أفعال داعش وأخواتها، نعم هو خوف، يكشف عن عجز، يشل القدرة على مغادرة مغناة الأمس الدابر، إلى مناخ التفكير الحر الجابر للكسور قبل الخواطر، إلى فضاء التجريب والاختبار على طريق الإبداع والابتكار، الذي يليق بالإنسان، كما كرمه المولى وفضله على سائر مخلوقاته، حينما خلقه على صورته، فمثل هذه الريبة لا ينجلي عجاجها إلا عن عجز أو وهن يؤبد البشاعات التي لحقت بصورة الإسلام النضرة، وسيرة الأوائل العطرة، وذلك لأسباب عدة، منها:
أولًا: على مستوى المقولة، وللعلم لا يوجد اليوم سواها على الساحة الفكرية، أي "مشروع تجديد الخطاب الإسلامي"، الذي ينهض به معالي الشيخ عبدالله بن بيه، رئيس "منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة"، فالرجل قامة علمية مشهود لها في الفضاءات العربية والإسلامية، بغزارة علمها الشرعي، واقتدارها على استنباط الحجة الإيمانية المنطقية، المتماهية مع العقلانية، سمة المدنية الحديثة، أو دين العصر وديدنه، هذا فضلًا عن دأب الشيخ وحدبه على حماية بيضة الدين، ودفاعه عن جماعة المسلمين في المحافل الدولية.
ثانيًا: إن معالي الشيخ ابن بيه حالما أطلق مشروح التجديد في الملتقى الثاني للمنتدى الذي عقد نهاية أبريل الماضي (عام 2015) في أبوظبي، طالب بوضوح شديد من سماهم "حملة العلم"، أي العلماء والمفكرين والباحثين على اختلاف مشاربهم الفكرية والمعرفية، باجتراح "المنهجية العلمية العملية"، وتعبير "العملية" الملحق بـ"العلمية"، أراد به الشيخ التركيز على أهمية فقه الواقع، أي الإقبال على الزمان بعجره وبجره في خدمة الإنسان، وليست أقل الدلالات على ذلك، دراسته الفذة "تحقيق المناط".
ثالثًا: لقد تحدث معالي الشيخ ابن بيه في أكثر من مناسبة عن جوهر خطاب التجديد، مركزًا على ضرورة استعادة البعد الإنساني في الدين والشخصية العربية والإسلامية؛ كحاجة ملحة، من خلال إشاعة ثقافة التسامح والحوار والانفتاح على الآخر بندية، عندما أعلن في ملتقى منتدى تعزيز السلم الأول: "الحرب على الحرب لتكون النتيجة سلمًا على سلم"، وهي مقولة استدعت أختها، حينما صوّب على الأكاذيب في السياسة الدولية، على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية العام الماضي، حيث قدم "السلم على العدل"، وهو الأمر الذي أثار حفيظة البعض، من أجناد الريبة والشك، ونقمة البعض الآخر، من عشيرة الطغام وأهل الظلام.
رابعًا: أوضح معالي الشيخ ابن بية بما لا يقبل الشك في كلمته التي ألقاها خلال افتتاح برنامج "إعداد العلماء الإماراتيين" في أبو ظبي مطلع مايو الماضي، عندما تحدث عن الفرق بين "الشرعي" و"العلمي" و"الإنساني" في العلوم، وضرورة الجمع بينها، حيث لاحظ أن "العلوم الشرعية هي الرديفة لعلوم الشرع، فعلوم الشرع هي الكتاب والسنّة والتفسير والفقه، والعلوم الشرعية هي المضافة إليها كاللغة والنحو وأصول الفقه والبلاغة والمنطق عند البعض، وهي من شروط الفتوى والاجتهاد، بالإضافة إلى بعد...كامل عن العلوم الإنسانية من تاريخ وأدب وفلسفة واجتماع". معتبرًا أن تلك المنظومات الثلاث، يجب أن تتكامل في شخصية العالم المعاصر، وهي الميزة المعرفية التي ميزت العالم المسلم في عصور الازدهار الحضاري للأمة، "حيث كان يجمع بين علوم الطبيعة وعلوم الشريعة، فالمازري الإمام كان فقيهًا طبيبًا، وابن رشد الحفيد كان فيلسوفًا طبيبًا فقيهًا، وابن خلدون كان فقيهًا وعالم اجتماع ومؤرخًا".
ويختم معالي الشيخ ابن بيه بجملة من النقاط، لا تحتاج إلى براعة في التفسير أو حذاقة في التأويل، من أجل فهمها، وسبر مضمونها؛ كجوهر خالص في مشروعه لتجديد الخطاب الإسلامي؛ لأنها من البيان وقويم اللسان، ما يكفي لتوضيح أغراضها وفهم مراميها، لكل رامٍ من دون سنان، وأهمها:
- روح المقاصد وحكم التشريع، التي ستبثها في الدراسات بطريق مبتكرة، لكنها أيضًا منضبطة ومؤصلة.
- إحداث مساق للفتاوى والنوازل والمستجدات، يدرس صناعة الفتوى وسبل استنباط الأحكام، والتعامل مع خصوصية البيئات والأعراف.
- قواعد النظر في المآلات وحكم المكان وحكم الزمان من خلال مادة مستحدثة؛ لتحقيق المناط.
- تقوية مكانة اللغة العربية في التكوين.
- تكوين الملكة الفقهية؛ باستحداث مواد جديدة، وتقوية المواد الشرعية المؤثرة في التعامل مع الواقع، وامتلاك مفاتيح التعامل معها.
- فتح آفاق العلوم العقلية؛ كالفلسفة وعلم المنطق والعلوم الإنسانية، أمام طالب العلم؛ لبناء الملكة النقدية عنده.
- المزاوجة بين الطرق الحديثة، والطرق التراثية الأصيلة في التلقي.
إن مشروع الشيخ ابن بيه للتجديد واضح لا يحتمل اللبْس، إذ عندما يجمع بين "روح المقاصد وحكم التشريع" وبين تطوير "مساقات الفتاوى وقواعد النظر في المآلات وحكم المكان والزمان؛ لتحقيق المناط"، ويفتح الباب واسعًا على العلوم الإنسانية بمختلف فروعها، ويزاوج بين الشريعة والعقل، فهو لا يُنهي القطيعة مع العقل، ويعلن المصالحة مع الفلسفة، ويدعو إلى الانفتاح على العلوم الإنسانية؛ بغرض التلقي؛ للتعلم وتدبير الأحوال واللحاق بالركب الحضاري فقط، وإنما يدعو معاليه بوضوح شديد إلى المشاركة الفاعلة في صياغة النواميس الكونية، من خلال إنتاج قيم إسلامية إنسانية جديدة، تساهم في عمارة الأرض بالخير والجمال والمسرة.
ويكشف قصور أهل الريبة، ويفصح عجزهم عن مجاراة التجديد، بما يستقيم مع شروط الخطاب الحداثي المستنير، أو بما يتواءم مع العقل السوي؛ كما يريده الشيخ ابن بيه.. إقرارهم بضرورة التجديد، "سواء في بنيته (أي الخطاب التجديدي) وأولوياته وإعادة صياغة أطروحاته، أو في تجديد تقنياته ووسائله وتطوير قدرات حامليه، بهدف تلبية احتياجات الشعوب المسلمة في الظروف الراهنة التي تعيشها، واستجابة للتحديات التي تواجهها في سياق التفاعل مع ما يجري حولها في العالم من أحداث".
هكذا إذن، فالتجديد عند أهل الريبة لازم وضروري، بغرضين لا ثالث لهما: "تلبية احتياجات المسلمين، واستجابة للتحديات التي تواجههم". أما أن يرتقي التجديد بالإسلام، إلى مستوى الرحمة للعالمين، كما أراد سبحانه وتعالى لدينه أن يكون، أو أن يرتقي التجديد بالمسلم إلى المستوى الإنساني، الذي يليق بإسلامه، أو إلى المستوى الذي أراده الله له من التكريم، كما في قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} فليس بذي أهمية!
لذلك نقول: لا، لم تعد الريبة مقبولة، وكفى تشكيكًا، وكفى وصاية على العقل، فإما الإقبال على التجديد، بما يليق بالإسلام والمسلمين أن يكونوا عليه، من حيث كونهم بالفعل "رحمة للعالمين"، أو فليكف هؤلاء عن العنعنة؛ لأن حذرهم أو ريبتهم الواهية، لا تَعِد بجديد موعود، ولا تبشر بيوم مسعود، ولا تنبئ بجنس المولود.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة