إلى متى ستستمر الهدنة بين رمزية الخطاب الديني والبراجماتية السياسية والدين المدني والمجتمع الحداثي؟
إلى متى ستستمر الهدنة بين رمزية الخطاب الديني والبراجماتية السياسية والدين المدني والمجتمع الحداثي؟ ومتى سيبدأ العرب بالاهتمام بصناعة التاريخ وتفعيل أدوات الوعي التاريخي، وتجاوز أنماط الفكر القديم؟ فلا يمكن أن نتقدم ونحن ننظر إلى الماضي دون أن نأخذ خطوة إلى الأمام، أو تتحرك أجسادنا إلى الأمام، وتبقى عقولنا أسيرة الماضي، خصوصًا بعد ما أحدثته الثقافة الرقمية من قفزة كبيرة، وإن كانت ليست بالضرورة نوعية في عالم الحريات والانتقال من عالم الانتماء المحدود والمعرف إلى مرحلة التجمع والتفاعل البشري الرافض للحدود والقيود والثائر ضد التطبيع مع الكثير من الدوافع التي تقف خلف القوانين والنظم والأنماط الفكرية والممارسات السلوكية والقيم الأخلاقية والروحية السائدة في وقتنا الحاضر.
وهنا لابد أن نشير إلى أنه من المهم أن يكون للمجتمعات الساعية للريادة فلاسفة ومفكرون بأعداد لا تقلّ عما لديها من أطباء ومدرسين ومهندسين ومبرمجين وباحثين وعلماء... إلخ، وأن نعلم أن المفكر أو الفيلسوف أو الباحث الحقيقي لا يقيده لقب أو مهنة أو شهادة أكاديمية ليطلق لتفكيره العنان، ويُمنح التفوق الكافي في مؤسسة فردية، أو مراكز تفكير مستقلة تدعمها الحكومات الحالمة بالعالمية التي تغلفها الإنسانية، وعليه يجب على الإنسان الفيلسوف أو المفكر أن لا يقع فريسة للتصنيف ويعلم تمامًا أنه باب من أبواب الإنسانية الخالدة متى أدرك ماهية الثقافة والفنون والفكر والفلسفة بعيدًا عن الروتين والتقليدية، التي يتوارثها ولا تختلف عن باقي الأصنام التي يحتضنها ويجعلها فوق النقد، وأن لا يلتزم بالحدود المرسومة للجسد أو العقل.
فمن البدهي والنافع توسيع دائرة المعرفة والعلم والتعلم، وأن يفتح الإنسان عقله لكل الأفكار دون أن يكون ملزمًا بأن يوافق عليها أو أن يتبناها، وهو أمر مهم لقبول الآخر والتسامح والتعايش السلمي، والذي تجهل الحكومات أنه يبدأ من البيت والثقافة الانفتاحية للعقل، ولكن كل ذلك لا يكفل عقلًا مستنيرًا أو شخصًا متسامحًا وإنسانيًّا، كون هناك بعض النوافذ لا يفتحها غير معرفة نوعية مرهونة بالفعل والقبول، أو ألم عظيم، أو تجربة خارجة عن المألوف، أو رحلة خاصة في الذات، أو اكتشاف ما كان يُعتقد أنه مجهول أو مصاهرة عقل أو فكر استثنائي، وتقبل الجهل مثل المعرفة حتى تكون عقلية مستنيرة؛ ففي الجهل كذلك دروس مستفادة، وقد يتحول إلى معرفة في عصر من العصور.
فهناك من يقرأ وفي عقله الباطن جدران فاصلة وأصنام خلقها في عقله الواعي، وتم حفظها في عقله الباطن، خصوصًا أن العقل منطلق من ناقص إلى ناقص، ومن محتاج إلى الكمال وباحث عنه، والكامل غير مدرك لا تدركه العلة والسببية. والعقل هنا يقف في الصف كالتلميذ النجيب ينتظر معلمه، والمعلم علمه من منبع متعلم، وبالتالي النقص هو المساوي الأعظم للبشرية مثل الموت، ولا ضرر أن يسبق التفكير مستوى الفكر، وأن يقبل عجزه وحدوده في إبعاد مختلفة تتعدى ما تصوره الأذهان في ضرب من "الجنون العاقل" إنْ صح التعبير.
فأكبر مخاوفنا هي تلك التي لا نتحدث عنها، وأكبر عُقدنا هي التي لا نعترف بها حتى لأنفسنا، والإنسان يرى الشجرة الجميلة المثمرة تقف شامخة، وكل ما يستوعبه هو الواقع الذي يراه ولا يعجب مثلًا ويتغنى بالجذور الصحية المتينة المختفية في باطن الأرض وكذلك الفكر للمجتمعات. فعندما نشاهد في الدول التي تقود العالم تقدمًا ماديًّا وعلميًّا وتكنولوجيًّا ونعتقد أن ذلك فقط بسبب الاهتمام الفائق بالبحث العلمي وتقديرهم للعلم والنظام والقوانين وحوكمة التميز وتشجيع الإبداع والابتكار وغيره من الأسباب الظاهرية، علينا كذلك أن نعي دور الفلسفة والفكر والثقافة والفنون كحجر الازدهار الأساسي لنهضة تلك الأمم.
إذًا، الانسداد التاريخي للعقل العربي متأصل في فخ إيهام وبرمجة الغرب له لتبني الدونية الفكرية لديه وقبول الفوقية والتفوق الفكري لدى الآخر، وكل ما هو مستحق للإشادة منبعه أو تم التعديل عليه ليرتقي في الغرب وهو نوع من الاستبداد الفكري الممارس على العقل العربي لدور الفكر المستنير والتفكير الحر في التحرر من التبعيات المتوارثة مهما كانت درجة النقاء والوضوح التي تتمتع به ومقدمة مهمة لبناء الأمم، ولن تقوم قائمة للعرب دون فتح أبواب العقل ليتفلسف ويفكر دون قيود بما فيه خير الحياة الدنيا والآخرة وتحطيم هياكل المعبد.
* نقلًا عن جريدة الاتحاد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة