وقاطعت محدّثي سائلاً: «هل من ضحايا؟ ومن هم الذين كانوا داخل الباص؟».
أيضاً وأيضاً عن لبنان نكتب.
تعود بي الذاكرة والذكرى الى أربعين سنة خلت، الى حادثة «باص عين الرمانة» حيث انطلقت شرارة الحروب الأهلية المدمّرة. ومن المفارقات، أن التاريخ يعيد نفسه في شكل مثير للاستغراب والدهشة. فمن قبيل الصدف، أن يكون الرئيس الراحل سليمان فرنجية في السبعينات، أبرز الشهود على اندلاع «حرب السنتين» (1975 - 1976)، واليوم وبعد أكثر من أربعة عقود، يواجه الوطن أحد أبرز تحديات العصر، ويكون محوره زعيم «المردة» سليمان فرنجية.
وبقطع النظر عما ستؤول إليه الإشكاليات الرئاسية، فإنني أركز على مضمون كتابي الجديد «حرب السنتين وبعد»، وأبرز ما رافق تفاصيل «حرب السنتين».
وفي ما يلي، أبرز مقتطفات مقدّمة هذا الكتاب:
هذا الكتاب «حرب السنتين وبعد...» ولماذا الآن؟
13 نيسان (أبريل) من العام 1975.
أذكر جيداً أنه كان يوم أحد مع بداية فصل الربيع الجميل في لبنان.
كنت في مبنى تلفزيون لبنان والمشرق القائم في منطقة الحازمية (إحدى ضواحي العاصمة اللبنانية بيروت) المتوهّجة والساحرة في ذلك الزمان.
كنت أعمل منذ الصباح على إعداد نشرة الأخبار، وكنا في تلك الفترة نعتمد على الأخبار العالمية التي تصل إلينا عبر وكالات الأنباء المحدودة، في حين أن الأخبار المحلية كانت تأتينا، ولو في شكل مختصر، من الوكالة الوطنية للأنباء.
مع انتصاف النهار، رنّ جرس الهاتف في مكتبي، وكان المتحدّث أحد الأصدقاء، وقد بدا في صوته قلق واضح وهو يسأل: «هل تعلم ما الذي حدث في منطقة عين الرمانة؟».
أجبت بالنفي. وعندما قال لي: «هناك حادث كبير في محلة عين الرمانة، حيث يسمع إطلاق النيران بكثافة»، وأضاف: «بلغني أن إطلاق النار استهدف أحد الباصات (البوسطة)، وكان يمرّ من منطقة الشياح المجاورة محمّلاً بالركاب».
وقاطعت محدّثي سائلاً: «هل من ضحايا؟ ومن هم الذين كانوا داخل الباص؟».
أجابني: «إن المعلومات الدقيقة حول ما جرى لا تزال غير معروفة حتى اللحظة، وكل ما علمت هو أن البوسطة كانت تنقل عدداً من الفلسطينيين المتوجّهين الى منطقة مخيم تل الزعتر».
وانتهت المكالمة بيني وبين الصديق لأسارع على الفور الى إجراء الاتصالات والاستفسار عما حدث، فإذا بالأخبار تتوالى لتحكي التفاصيل الآتية:
كان رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل، يحضر قداساً في كنيسة عين الرمانة، وبعد انتهاء مراسم الصلاة، سمعت أصوات نيران كثيفة تتعالى في أرجاء تلك المنطقة، ليتّضح في ما بعد أن ضحية ذلك الحادث هو أحد شبان المحلّة من عائلة أبو عاصي. ثم توالت معلومات بعض شهود العيان ليتّضح ما يأتي:
في تلك الأثناء، صادف مرور البوسطة التي تحمل عدداً من اللاجئين الفلسطينيين، فتعرّض الموكب لإطلاق نار كثيف «من جهة غير محدّدة بالضبط»، ما أدى الى سقوط العديد من ركاب تلك الحافلة بين قتيل وجريح. وعلينا الإشارة هنا، الى أن الفترة التي نتحدث عنها، لم تكن وسائل الاتصال متوافرة بسهولة خلالها. وتكشف الأمر بعد ذلك، عن المأساة الكبيرة لتُعرف في ما بعد بحادث «بوسطة عين الرمانة».
وانتظرت ورود أي معلومة من مصدر رسمي عما جرى من جانب الوكالة الوطنية للأنباء أو غيرها، لكن من دون جدوى.
أتذكر أن رئيس الجمهورية اللبنانية الرئيس سليمان فرنجية، كان يرقد في أحد أسرة مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، إثر خضوعه لعملية جراحية، عندما بدأت الأخبار عن «موقعة عين الرمانة» تنشر بالتواتر. حتى ذلك الحين، لم تصدر عن أي جهاز رسمي معلومة أو خبر يوضح أو يكشف ما الذي جرى في عين الرمانة.
حاولت بشتى الوسائل معرفة حقيقة ما جرى، لكن حالة من الوجوم سادت العاصمة بيروت والضواحي وسائر المناطق اللبنانية.
كان موعد نشرة الأخبار التلفزيونية يقترب، وليس لدي سوى بعض الأخبار المحلية العادية والكثير من الأخبار العالمية عن الحرب في فيتنام، التي كانت مستعرة في تلك الفترة. ووقعت في الإحراج المهني: كيف يمكن الظهور على الشاشة الصغيرة وتقديم نشرة الأخبار من دون الإشارة الى ما حدث. وأذكر أنني بينما كنت في طريقي الى الاستوديو، وردني اتصال من الوكالة الوطنية للأنباء، وجرى إبلاغي بخبر مقتضب جداً، تحدّث عن «وقوع بعض الحوادث في منطقة عين الرمانة، وأن السلطات المختصّة باشرت التحقيق لكشف ملابسات ما حدث!».
وبدأت تداعيات هذا الحادث بالانتشار بسرعة مذهلة في مختلف الأوساط اللبنانية، وأدت الى حال من الاستنفار داخل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين.
كان حادث عين الرمانة بداية انطلاق الحرب اللبنانية - الفلسطينية. وبرزت خطوط التماس الأولى (الشياح - عين الرمانة)، وبقيت خمسة عشر عاماً ويزيد من أكثر الحروب الأهلية شراسة وفداحة. وبدأ منذ ذلك الوقت، تكريس التقسيم بين «بيروت الشرقية» و «بيروت الغربية».
ومع مرور الزمن، بدت جبهة الشياح - عين الرمانة كأنها موقع ستالينغراد في الحرب المدمّرة بين الجيش السوفياتي والقوات النازية.
رافقت اندلاع أقسى المعارك وشراستها حرب الاتهامات المتبادلة بين «الجانب المسيحي» من جهة، و «الفريق الإسلامي» والفلسطيني في الجانب الآخر، ليتّضح لاحقاً أن لبنان سقط في واحدة من أقذر أنواع الحروب، تداخل فيها العديد من العوامل والعناصر، والتي سنعرض لها بالتفصيل في الفصول الآتية.
هذا الأمر يوصلني الى الحديث عن مضمون هذا الكتاب. ففي رغبة صادقة وواضحة، أضع أمام قراء «حرب السنتين وبعد...» العديد من الوثائق المعلوماتية وذات الارتباط المباشر والوثيق بالهاوية التي سقط فيها الوطن، بل ومن أسقطه فيها.
لقد آليت على نفسي في مراحل حياتي المهنية كافة، أن أحترم عقل المواطن أينما كان والى أي جهة انتمى، وأن أضع أمامه الحقائق المجردة، وأترك لهذا القارئ الرغبة في ممارسة حرية التحليل، وهو الأمر المنطلق من المدرسة التي نهلت منها العلم والمعرفة في مجال الإعلام، والتي تقوم على عدم المزج بين الخبر والتعليق، أو بين المعلومات المجرّدة والآراء الشخصية، مع الإشارة الى أنني أسجل رأيي الشخصي في هذه القضية أو تلك من دون ممارسة أي ضغط أو قمع فكري على كل باحث عن الحقيقة، في ظروف مصيرية ضاع معها في الحروب اللبنانية منذ منتصف القرن الماضي ووصولاً الى العام 2015، وهو الذي يكتب وينشر في هذا الكتاب، لذلك فإنني أقدم هذا الكتاب على أنه كتاب معلومات وليس كتاب موقف أو انحياز، حرب من؟
حرب من تلك التي اندلعت في الثالث عشر من نيسان (أبريل) من العام 1975، حتى يومنا هذا؟
نطرح العديد من التساؤلات علّنا نتوصّل في نهاية الأمر الى بعض الحقائق.
هل هي حرب أميركا هنري كيسنجر؟
أم هي حرب إسرائيل في سعي الى إعادة رسم خارطة المنطقة والقضاء على التعايش المسيحي – الإسلامي، وضربة في العمق وفي الصميم لضمان استمرارية النظام العنصري في إسرائيل؟
لقد كان لبنان مضرب مثل في الصيغة التي جمعت ثمانية عشر مذهباً في إناء وطني واحد، لنكتشف لاحقاً أن التعايش بين اللبنانيين على اختلاف توجّهاتهم كان نعمة ثم تحوّل الى نقمة.
إنها حرب هؤلاء جميعاً مع أمور أخرى، لأن ما ابتلى به لبنان كان غريباً وفريداً، كغرابة الوضع اللبناني وفرادته.
إن الأعجوبة التي سيرت لبنان «عين الله ترعاه»، تواصلت على مدى ثلاثة عقود ويزيد قليلاً، ثم توقفت فعالية هذه الأعجوبة في حينه، وصار على اللبنانيين أن يفكروا في بناء الوطن اللبناني، وفي بناء الدولة اللبنانية.
كانت أخبار «حرب السنتين» معروفة وشائعة، بل إن البعض «بشّر» بها قبل أن تقع.
عميد الكتلة الوطنية الأستاذ ريمون إده، قال لي أنه تلقى معلومات عن «قبرصة لبنان» قبل بداية مسلسل الأحداث. كذلك قال لي الزعيم كمال جنبلاط، أن سفير دولة كبرى أبلغه «أن الأحداث التي بدأت في لبنان لن تنتهي قبل سنتين على الأقل»، وهذا ما حدث بالفعل.
مسؤول عربي كبير أبلغ بعض اللبنانيين أن يأخذوا علماً بعدم الإقدام على أي مشروع يقع خارج حدود منطقة الزهراني في جنوب لبنان، «لأنه ليس مؤكداً أن يبقى الجنوب منطقة لبنانية»!
وإضافة الى ذلك، وفي لقاء خاص مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وبعد اندلاع الحريق اللبناني الأخير بوقت قصير، قال لي بالحرف: ... «في لبنان كارثة أفظع من كارثة فلسطين»... وقال بانفعال شديد: «ألا تكفينا فلسطين واحدة؟».
وحيال ما سمعت منه عن تصوراته للأوضاع في لبنان والمنطقة، بدا لي لاحقاً وكأنه كان يقرأ من كتاب.
سألت: «هل من خطوة محدّدة لوقف التدهور الخطير؟».
قال: «سجّل لديك. إنني على استعداد تام للتوجّه الى بيروت وتأمين اللقاء بين الرئيس سليمان فرنجية وياسر عرفات، ولن أغادر بيروت قبل التوصّل الى حلّ للوضع الإشكالي الكبير، وهذا ما يجب أن يتم في أقرب فرصة، قبل فوات الأوان».
وفعلا... فات الاوان.
وإذا بالوضع المتفجّر في لبنان لا ينتهي بسنتين.
وبالعودة الى الإجابة عن التساؤلات التي طرحناها في بداية هذه المقدمة:
إذا كانت هي حرب العرب، فقد نجح بعض العرب في تدمير لبنان ولو الى حين وبأيادي أبنائه. لكن هذه الكأس المرة التي حاول البعض إبعادها منه ومنع وصولها إليه، بلغته، ولو بعد حين، وبمسميات مختلفة. لنلاحظ لاحقاً سقوط المنطقة في أتون الحريق الكبير.
وإذا كانت حرب كمال جنبلاط، كما يزعم البعض، فهو لم ينجح في تقويض «الحكم الماروني»، ولو أنه سيطر بتحالفه مع المقاومة الفلسطينية على ثمانين في المئة من الجغرافيا اللبنانية خلال الحرب.
وإذا كانت حرب مطالب المسلمين ضد ما كان يُسمى بـ «امتيازات المسيحيين»، فلم يحصل المسلمون على «الإنصاف»، بل زادت الحرب في بعثرة قياداتهم وشعوبهم!
وإذا كانت هي «حرب المحرومين»، كما طرح البعض، فإن محروماً واحداً لم تصل إليه العدالة ولا أي اكتفاء، بل إن الحرب ساوت غالبية اللبنانيين في الحرمان، إلا طبقة أثرياء الحرب التي «وظّفت» نفسها في الحرب كما يوظّف آخرون أنفسهم في حالات السلم.
وإذا كانت الحرب اللبنانية هي حرب تصفية القضية الفلسطينية وتحجيمها، كما أشاع البعض، فإن الفلسطينيين باقون في لبنان، على رغم كل ما أصاب الثورة الفلسطينية من طعنات في الصميم.
وإذا كانت حرب المقاومة الفلسطينية كما بدا في بدايات الحرب، فقد فشلت المقاومة في تشديد قبضتها على لبنان، على رغم كل المحاولات لاعتبار لبنان الوطن البديل عن فلسطين، وبذلك تكون المقاومة قد خسرت: فلسطين ولبنان.
أما إذا كانت حرب إسرائيل في سبيل إعادة رسم خارطة المنطقة وضرب التعايش في لبنان، فقد أثبت اللبنانيون بالممارسة، وعلى رغم كل ما حدث، أن الانقسام الطائفي لم يفصل بين أبناء الشعب اللبناني.
وسنة بعد سنة تكرس التعايش، وأصبح الميثاق غير المكتوب ممارسة يومية يعيشها اللبنانيون، واتخذت هذه المعايشة الطابع الاجتماعي في تنامي العلاقات بين الطوائف والعائلات الروحية وتوزيع الوظائف على هذه الطوائف عبر مقياس دقيق ومتوازن، ولو الى حين، قبل أن يؤدي تولد التراكمات على اختلافها الى «اختلال» في هذا التوازن، لتتحوّل نعمة التناغم الطائفي الى... نقمة، وفق ما سيتّضح في زمن لاحق، وعبر بعض فصول هذا الكتاب.
وفي العام 1958، تعرّضت صيغة التعايش اللبناني لأول إصابة خطرة ومباشرة. فرئيس الجمهورية اللبنانية في حينه الرئيس كميل شمعون، اتُّهم بأنه يسعى الى تمديد ولايته الرئاسية ست سنوات جديدة، وهذا يخالف الدستور اللبناني، كما اتُّهم بأنه يعمل على ربط لبنان بأحلاف أجنبية، ومن أبرزها «حلف بغداد» أو «مشروع آيزنهاور»، فقامت ثورة مسلّحة بدأت شرارتها باغتيال الصحافي نسيب المتني، صاحب جريدة «التلغراف»، وذلك في التاسع من شهر أيار (مايو) من العام 1958، واستمرت «الثورة نحو ستة أشهر، ولم ترغم الرئيس كميل شمعون على التنازل قبل انتهاء ولايته الدستورية، وانتهت بانتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.
خاض الرئيس شمعون سنة 1958 حرباً ضد «المد الناصري»، وخاضها المعارضون لتأكيد عروبة لبنان وضد «خروجه عن الصف العربي».
واتخذت تلك الأحداث أبعاداً عالمية أدت الى نزول قوات من مشاة البحرية الأميركية على الشاطئ اللبناني، غداة وقوع انقلاب عسكري في العراق أطاح الملكية والملك فيصل وسائر رموز العهد الملكي. وكان ذلك في الرابع عشر من تموز (يوليو) من العام نفسه.
إذاً بين العامين 1943 و1958 محطة بارزة. انتهت الثورة بشعار «لا غالب ولا مغلوب»، وآخر يقول: «لبنان واحد لا لبنانان»، وهي شعارات معقودة اللواء لرجل الدولة البارز الرئيس صائب سلام.
ذات يوم، توجّه الصحافي المعروف والرجل الوطني الأستاذ عبدالله المشنوق، الى القصر الجمهوري، والتقى الرئيس شهاب. وخلال الحديث، طالب المشنوق رئيس الجمهورية بإجراء إحصاء عام في البلاد لتبيان عدد المسلمين والمسيحيين.
ردّ الرئيس شهاب قائلاً: «أرجوك يا عبدالله أن تطوي صفحة هذا الموضوع، فأنا ومنذ الآن ومن دون إجراء إحصاء، أقول لك إن المسلمين هم الأكثرية في لبنان، وقد تتجاوز نسبتها مع الشيعة الـ60 في المئة، لكن إجراء الإحصاء ستتبعه المطالبة برئاسة الجمهورية».
وهنا، أخرج الرئيس شهاب من درجه عريضة وقراً منها: «إن المطالبة بالإحصاء إذا ما حدثت، فهي تعني تلقائياً مطالبة المسيحيين بلبنان الصغير، فهل تريدون العودة الى لبنان الصغير؟».
وأضاف الرئيس شهاب: «أنا أعلن لك منذ الآن، أنني سأحقق المشاركة المنصفة والحقيقية بين المسيحيين والمسلمين، وإذا ما حدث أي خلل في تطبيق هذه المشاركة، ففي إمكانك أن توقظني من النوم في أي ساعة تشاء، وتشير إليّ بالمخالفة».
وهنا ردّ الأستاذ عبدالله المشنوق بالقول: «حسناً... سأطوي صفحة هذا الموضوع نهائياً».
ولعلّ الطابع الخاطف للحرب (حرب الأيام الستة) كما عرفت في الإعلام الغربي، وسقوط مصر في ما سُمي بتسميات متعددة، من «النكسة» الى «النكبة» الى «الهزيمة»، وهذه الناحية السريعة لتلك الحرب، يمكن القول إنها جنّبت لبنان «التورّط» فيها، لكن لبنان لم يسلم من براثن إسرائيل التي قصفت طائراتها الحربية مطار بيروت الدولي، ودمّرت أسطول الطائرات المدنية التي كانت جاثمة على مدرجه (13 طائرة دُمِّرت بالكامل). وإذا كان لبنان أمكنه تجنّب حرب المواجهة الكاملة مع إسرائيل لعدم حصوله على العتاد والعديد الكافيين لمثل هذه المواجهة، فإن إسرائيل «استفردت» بلبنان وألحقت به الكثير من الأخطار والدمار.
إثر حرب الخامس من حزيران 1967، وما انتهت إليه من كوارث لمصر والعرب، نشأت حركة المقاومة الفلسطينية من منطلق البديل عن فشل جيوش الأنظمة العربية. وعقب أحداث «أيلول الأسود» في الأردن بين قوات الجيش الأردني وعناصر المقاومة الفلسطينية التي كانت تسعى في شكل أو في آخر الى الاستيلاء على السلطة، حيث طرح شعار الوطن البديل.
إثر هذه التطورات، تدفّق عدد كبير من الفلسطينيين الى لبنان للإفادة من الحدود الجنوبية والانطلاق منها في أعمال فدائية ضد إسرائيل. وكان ذلك وبالاً على لبنان بكل معنى الكلمة، إذ وقعت صدامات عديدة بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين.
منذ ذلك الحين، نشأ التناقض الحاد بين «منطق الدولة» و «منطق الثورة»، حيث مارست العناصر الفلسطينية أقصى الضغوط على السلطة اللبنانية وعلى اللبنانيين في شكل عام. وكان للوجود الفلسطيني في لبنان الكثير من المضاعفات والتداعيات، ومن أبرزها نشوء الأزمة بين رئيس الجمهورية في حينه الرئيس شارل حلو من جهة، ورئيس الحكومة رشيد كرامي من جهة ثانية.
حيال تعقّد الوضع الداخلي اللبناني، ركّز الرئيس شارل حلو على التوصّل الى صيغة تسعى الى «تنظيم الوجود الفلسطيني في لبنان»، وشكّل هذا الاتفاق تحوّلاً في تاريخ العلاقات اللبنانية - الفلسطينية، بخاصة لجهة «شرعنة» الوجود الفلسطيني في لبنان، وذهب لبنان في حينه حتى الى أبعد مما كانت تتصوّره المقاومة الفلسطينية. وكان اتفاق القاهرة في العام 1969.
ويخلص كتاب «حرب السنتين وبعد...» الى التالي:
وأطل العام 2015 على لبنان مثقلاً بألف هم وهم: وطن بلا رأس وجمهورية بلا رئيس.
حال التجاذب السياسي والوطني في أدق المراحل، والاحتقان المذهبي والطائفي والمناطقي في موقع متقدّم وينذر بأوخم العواقب.
وغرقت الجمهورية في النفايات المتراكمة.
لقد أردنا من الإشارة الى «موقعة النفايات»، إظهار الانهيار التام في هيكلية الدولة وتخلّفها عن مواجهة الأزمات التي عصفت بلبنان كوطن وكجمهورية. ومن أسوأ وجوه هذه الأزمة وأقذرها وأقبحها، اتخاذها المنحى الطائفي والمذهبي. وهذا هو الوجه القاتل للداء العضال.
إن هذا الوطن كالمركب الذي تتقاذفه الأمواج والأعاصير، فيهتزّ ويهتزّ، لكنه لا يغرق، لكن الى متى؟
إنه كبرج «بيزا» المائل في إيطاليا، تنظر إليه فتراه كأنه سيؤول الى السقوط بين ساعة وأخرى، لكنه يبدو صامداً أبداً.
ويصدر هذا الكتاب في العام 2015 مع تزايد التساؤلات: هل «الصيغة» لا تزال صالحة؟ أم حان وقت التغيير؟
ومرة جديدة نطرح السؤال:
هل أن لبنان بواقعه الحالي، هو بلد موحّد فعلاً ويجب العمل على تحصين هذه «الوحدة»، أم أنه كما أنه هو وطن مقسّم ويجب فعل المستحيل لاستعادة وحدته.
مطلوب جواب واضح وصريح وشفاف بعيداً كل البعد من الرياء والازدواجية والباطنية.
بلوغاً الى سؤال الأسئلة: نكتب هذا الكلام في نهاية العام 2015: هل «الصيغة» لا تزال صالحة؟ أم حان وقت التغيير؟
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة