معرض "زمن مكسور" عن الأسر الفلسطيني: الانتصار على الملل والوقت والألم
"العين" تحاور الفنان منذر جوابرة
"بوابة العين" تحاور الفنان الفلسطيني منذر جوابرة حول معرضه "زمن مكسور" الذي تطرق فيه لقضايا الأسر بمعناها الفعلي وبمعانيها الفلسفية.
موهبته الفنية واضحة المعالم، وكذا تحكمه الواثق بتقنيات الرسم.. لوحاته تأسر في داخلها تعابير إنسانية وتراكيب متقنة تتطلب انتباهًا عميقًا وفحصًا دقيقًا تبرز الأشكال والرسائل بدقة.. هو الفنان التشكيلي الفلسطيني منذر جوابرة الذي يروي قصص " زمن مكسور" في معرضه الذي افتتح مؤخرًا في رام الله ويستمر لغاية 25 من أغسطس/آب الجاري.
تطرق جوابرة من خلال معرضه إلى قضايا الأسر بمعناها الفعلي، وبمعانيها الفلسفية على صعيد الفرد والمجتمع، وفي أكثر من مستوى، حيث يجمع المعرض ما بين أعمال الفيديو والتركيب والتصوير والرسم واللوحات والأداء، كما دمج فيه عنصر الخيط في جميع الأشكال الفنية، حيث نجد لوحات مرسومة على الخيوط أو أعمالًا تركيبية منفذّة باستخدامها.
"بوابة العين" حاورت منذر جوابرة، الفنان فلسطيني الذي ولد عام 1976 في مخيم العروب في مدينة بيت لحم في الضفة الغربية، وتوقفت عند معرضه الحالي ومسيرة الفن التشكيلي الفلسطيني في حوار خاص:
هل استطاع "زمن مكسور" ترميم القليل مما يسرقه الأسر من المعتقلين؟
"زمن مكسور" هو مشروع يعمل على البحث عن مفهوم الزمن المفقود أو اللامرئي للمعتقلين السياسيين، وهو محاولة للدخول أكثر في تفاصيل وحيثيات الأسرى داخل غرفهم، وتلمس لحظاتهم اليومية على مدار العزل كيف يقضون حياتهم وأيامهم، كيف يبنوا علاقاتهم ويبنوا الثقة فيما بينهم، وماذا يعني لهم الوقت في داخل الزمن، وكيف يمكن أن يرتبط زمنهم المفصول عن الواقع مع زمنهم الخاص، وكيف يمكنهم أن يعودوا ليندمجوا في المجتمع فيما بعد، هي ربما أقرب للدخول في العالم النفسي لدى المعتقلين وتعريف الناس إليهم عبر البحث في هذا المفهوم.
وما يحاول تقديمه المشروع هو البعد الإنساني في المعتقلات، وقد بني المشروع على عدة مراحل بدأ منذ شهر مارس الماضي، في رسم مجموعة من اللوحات عن الأسرى، وهي صور مُتَخيلَة، أقرب للتفكير الرومانسي في تعاطينا مع قضية الأسرى، كالبطل والقوي.. الخ، وقدمت من خلالها ٦ أعمال مرسومة تعكس حالة التحدي للأسرى للظروف كافة التي هم فيها، مثل أسير على أرجوحة في داخل الزنزانة، أو أسير نائم على سريره، بينما السرير يحلق به داخل غرفته، وآخر يقفز داخل السجن وكأنه في لعبة ماراثون.. الخ.
ماذا أضاف لك فيلم "ملاحقة الأشباح" في تكوين فكرتك عن "زمن مكسور"؟
بدأ العمل على المعرض يتطور أثناء المشاركة في فيلم "ملاحقة الأشباح" للمخرج رائد أنضوني الذي قام مشروعه على إعادة بناء سجن المسكوبية مع معتقلين سياسيين سابقين، وهنا كانت المعايشة الحقيقية مع الأسرى لمدة 45 يومًا حيث بدأ الاقتراب أكثر من حياة الأسرى، وأخذ المشروع بالتطور من خلال التعامل مع البيئة الحقيقية للسجون.
عدم توفر الخامات اللازمة للفنان، جعلت الصوف أساس المشروع، وبدأت أنسج من خلال جسدي غرفة زنزانتي لمدة ساعتين تقريبًا وأنا أمشي وأعود في داخل الغرفة، وفي كل خطوة يكون النسيج من الصوف الذي يغلق مساحة الزنزانة، وهي تعكس حالة الوقت الممل الذي يتكرر في كل لحظة، وكيف يمكن للمعتقل تجاوز مسألة الزمن والانتصار عليه؟ ومن ثم أخذ المشروع يذهب باتجاه آخر من خلال اللعب بخيوط الصوف، وبناء أعمال متنوعة أساسها الخيط نفسه بدل القماش ومن ثم الرسم عليه، أو بناء أعمال تركيبية من خيط الصوف نفسه.
كيف نجحت في ربط المعرض بالأسر وأنت لم تسجن في حياتك؟
التفكير بالسجن هو شعور طبيعي عند الفلسطينيين كافة عبر سنوات النضال من وقت الاحتلال ولغاية هذه اللحظة، وربما كان أوجها في سبعينيات القرن الماضي وفي الانتفاضة الشعبية الأولى وكذلك في هذه الانتفاضة، ومن الطبيعي أن كل الفلسطينيين معرضين للاعتقال بغض النظر شاركوا أو لم يشاركوا في الفعل النضالي، وهذه الحالة بقيت مستمرة عندي منذ الإنتفاضة الأولى ومن خلال المشاركة بفيلم "ملاحقة الأشباح" كان التخلص من هذه التأزم الطويل ومواجهة السجن بفعل إرادي، وكذلك هي من أجل البحث والتعرف أكثر على حياة المعتقلين، وإن كانت بشكل تمثيلي، لكنها عكست حقيقة مطلقة في ردة فعل الأسرى السابقين، ونقلوا صورة حقيقية عما كان يحدث معهم.
ما الذي ترويه خيوط الصوف في معرض "زمن مكسور"؟
يقدم المعرض مجموعة متنوعة من الوسائط الفنية المتعددة، مثل التركيب، واللوحات، والفيديو آرت، والتصوير وبعض الأعمال المختلفة مثل التطريز، لكن الأعمال جميعها تتعامل مع خيط الصوف كتقنية وكمفهوم يقوم العمل عليه في شتى اختلافاته.
خيط الصوف عكس أمرين مهمين: أولهما هي المادة المتوفرة في المعتقلات إلى جانب علب المعجون وعجم الزيتون، والكرتون وأقلام الحبر التي أنتج منها بعض الأسرى أعمالًا فنية متعددة لأهاليهم خارج السجون، لكن خيط الصوف جاء نتيجة بحث المعتقلين عن أدوات تساعدهم على تقضية أوقاتهم بالإنتاج من أكياس الخيش التي قاموا بفرطها، ومن ثم استخدام خيوطها، ولاحقًا من أكياس السكر والملابس ومن ثم خيوط الصوف، وهو ربط مباشر ما بين السجن وبين العمل الفني المنتج، هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى علاقة الخيط بالزمن، فاستخدامي لخيط الصوف الهش والضعيف يعكس زمنًا مرئيًّا عبر تمثيله بعمل فني يأخذ وقتًا وجهدًا مني، وهو الوقت الذي أنتج فيه العمل وكأنه يقدم شهادة حية على وجودي كإنسان في معتقلات العدو، ويأخذ هذا البعد الترميزي بالزمن عبر تداخله مع الأعمال الفنية، فتارة تشاهده فوق العمل المرسوم وكأنه يخفي تحته بعض التفاصيل كما شبابيك المعتقلات، وتارة تجد الرسم فوقه كحالة من الانتصار والقدرة من الخروج عن فكرة تقبل الأسر، وفيها تعبير ضمني على أن هذا الخيط سينتهي زمنه كما السجون التي سيأتي وقتًا وينتهي زمنها.
ما سبب اعتمادك على مقولة "نحن نموت ونحيا في الزمن ... إلخ"؟
هي مقولة للفيلسوف غاستون بلاشر في كتابه حدس اللحظة، وبعد الانتهاء من تقديم الأعمال الفنية قمت بالبحث نظريًّا عن ما كتب عن الزمن والمعتقلات، وقد لفت نظري هذه الجملة التي اعتبرتها أقرب ما يكون لما كنت أفكر به، بمعنى أن الزمن مسألة مستمرة لا تنتهي بالنسبة لموتنا أو حياتنا وما يموت أو يحيا فهو الإنسان، هو الفعل اللحظي بعيدًا عن الفعل الزمني الذي يستمر، وهذا يؤشر على أن من استشهدوا أو اعتقلوا لم ينتهِ فعلهم بل هو مستمر كحالة من التحفيز والتأثير على الفعل الإنساني اللاحق، وهي دافع للاستمرار في مشروعنا الوطني بغض النظر عن الظروف المحيطة كافة.
ما رأيك في مسيرة الفن التشكيلي في فلسطين؟
الفن التشكيلي الفلسطيني لا ينضب، ولكن على الباحثين الحقيقيين والمهتمين أن يفتحوا عيونهم أكثر على الفن الحقيقي لا المفتعل، وبعيدًا عن فن الديكور السائد في سوق الفن الآن، فإن الفن الفلسطيني يشكل نموذجًا مهمًا لا سيما الفنون متعددة الوسائط، وهناك أسماء مهمة في العالم الآن تمثل فعلها الفردي المنتمي لفلسطين، وقد سجلت حضورًا قويًّا وقدمت أعمالًا متفردة نفخر بها، وعلينا أن نثق بفناني فلسطين لأنه لدينا قضايا وأفكار متعددة ونتشارك بها مع العالم ولا يمكنها أن تموت.