الكثير حتى من طبقة المثقفين هرع ناحية طبقات الذكريات لاستدعاء إضبارات التاريخ وآلامه التي تسبب بها الآخر في زمن من الأزمنة الخوالي
حادثة التفجيرات التي ضربت فرنسا وحوادث مشابهة أثخنت دول أخرى سابقًا كان ضحيتها أبرياء عادةً، ربما كشفت عن مستندات وعينا السرية تجاه الآخر وتجاه قيمنا التي ندعيها قيم الإسلام ومنظومة الأخلاق عمومًا، كانت اللغونة العامة لردة الفعل من قبل عامة بني ثقافتنا تجاه هذه التفجيرات، مموهة بحالة من التشفي التي تقلها حمولة الثأر القارة في اللاوعي المثقل بالكراهية.
الكثير حتى من طبقة المثقفين هرع ناحية طبقات الذكريات لاستدعاء إضبارات التاريخ وآلامه ومآسيه التي تسبب بها الآخر في زمن من الأزمنة الخوالي، كانت ردة الفعل الموازية للتفجيرات التي وقعت في فرنسا من قبل كثيرنا العودة للتذكير بمجازر فرنسا بحق الجزائريين "نموذجًا" كما لو كانت لاتزال ساخنة وتفوح روائحها ما يشي بروح الانتقام والكراهية، لست أنفي خطايا فرنسا بحق الشعب الجزائري أو أدعوا لنسيانها ومحوها، فتلك حقيقة تاريخية، لكنني أتسأل حتى متى ونحن مسكونين بعقيدة الثأر ونجدد متلازمة الكراهية، إنني أنادي بالتناسي الحضاري لا النسيان الذي هو ضرب من المحال، ذلك أن مكوثنا في خندق الذاكرة المشحونة بالانتقام والثأر يكرس في أعماقنا الوقوف تحت عتبات تاريخية محروقة تجاوزها الواقع بتصاريفه وحتمياته، ردة الفعل التي طمرت أرواح الأبرياء الذين اغتالتهم يد الغدر وتوظيف المجزرة للتذكير بمستحقات تاريخية ما هو إلا إمعان في التحوصل في معارج الماضي التي تعيد تأكيد عجزنا عن مسايرة طبيعة الحياة وقوانين التفاعل مع الكون، بما فيه من صراعات أزلية تتأبى الوقوف لأحد أو مع أحد، وتتأبى الحرون في لحظة تاريخية، كما كشفت التفجيرات الباريسية حجم تيهنا الفكري والأخلاقي، وكشفت عن عجزنا في تخطي أوهام الاستحقاقات التاريخية، مثال بكائياتنا وتواشيحنا عن فردوسنا المفقود "الأندلس" والتي هي حقيقة عادت لأهلها الأصليين، هذا الفردوس الذي لازلنا نبعثه دومًا كما لو كان قد فقد حديثًا بيننا مضى على قصته قرون متطاولة.
لا أتخيل أن اليابانيين والفيتناميين قد احتفلوا بتفجيرات 11سبتمبر التي ضربت برجي التجارة في الولايات المتحدة تشفيًا من مجازر الولايات المتحدة بحقهم، والتي حدثت في القرن الماضي، فاليابانيون والفيتناميون تعاطوا التناسي الذي وجدوه خارطة الطريق المنطقية لتجاوز كوارثهم، ولم يندرجوا ناحية النواح وتغوير عقيدة الثأر متجهين إلى التماس بالواقع الذي يحتم العمل والجهد في استعادة العافية والانخراط في المستقبل والذي لا يحتمل تدجيج الذاكرة بأوهام الثأر، وذلك ما حدث، حيث تتربع اليابان أهم اقتصادات العالم متجاوزة ذاكرتها الجريحة، محولة الكارثة إلى لحظة وفرصة للتغيير والتطور ، اليابان وفيتنام اتجهت ناحية المستقبل منطلقة من لحظة الكارثة والدمار طولًا حيث المستقبل، نحن لم نمارس هذا التعاطي الحضاري المنطقي مع تاريخنا بما يشتمله من أحداث، بل ظلت ثقافتنا تنسج حول الأحداث والحروب العتيقة كما هي، ظلت تنسج حول لحظات تعتبرها مجيدة وخالدة مع أنه لم يتبق منها سوى المسطور في الكتب والحائم في الذاكرة، بما يعني أن ثقافتنا ظلت تتوقف حول معارج الماضي تدور حوله دون أن تفكر بالانطلاق من المركز "اللحظة التاريخية" نحو المستقبل طولًا لا عرضًا،
لا وعينا الفكري امتثل للتاريخ واستحقاقاته في حالة من الاجترار المتواصل دون التفكير في المشاركة في مماحكات وصراعات الحاضر التي لا تحترم غير القوة والقدرة على التأثير وذلك ما جعلنا عبئًا على العالم.
العالم الحديث لا يعرف عقيدة الثأر ولا عقيدة الاستحقاقات التاريخية، فتلك من بقايا القرون الوسطى التي كانت تحتكم إلى الوعي البدائي الثأري، وتحول العالم ناحية المصالح بصرف النظر عن التاريخ.
نموذجًا ألمانيا وفرنسا كانتا نواة الاتحاد الأوربي، وذلك من خلال اتحاد تجارة الفحم والذي تدرج بالنهاية لتكوين الاتحاد الأوربي، فرنسا حينها تناست ما صنعته ألمانيا هتلر من ويلات ودمار، واندفعت للتصالح مع ذاتها ومصالحها دون استدعاء لذاكرتها الجريحة؛ لوعيها أن العالم الجديد تجاوز حمى الاستحقاقات التاريخية.
(( باختصار )) كمية الضغينة التي تحملها ثقافتنا تجاه الآخر وما تحتويه من نشوه في قتل الأبرياء ليس لشيء عدا أنهم ينتمون لدول نستضمر كراهيتها جراء أحداث قديمة، يؤكد مدى تهافتنا الفكري والإنساني وتحت رسم الدين غالبًا، وذلك نتيجة حتمية لتوحيدنا للتاريخ وعدم القدرة على تحقيبه وأخذه كجزيئات غير متماسة.
الأمم التي تستكن للذكريات والاستحقاقات التاريخية أمم بدائية لا تمتلك مقومات البقاء والمشاركة والتأثير، ويظل وجودها جغرافي لا تاريخي
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة