ياريت كان كل أساتذتنا مثلك، هذا هو التعليم بحق.
ياريت كان كل أساتذتنا مثلك، هذا هو التعليم بحق.
عبارة قلتها ضاحكا لصديقي الدكتور علي عبد اللطيف احميدة عندما أخبرني عن محاضرة لتلاميذه عن الفنانة والراقصة الشهيرة سامية جمال.
والدكتور احميدة من أصل ليبي، وهو أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية بجامعة نيو إنجلند الأمريكية، وله أسلوب خاص جدا في التعليم، اكتسبه ـ ليس فقط من دراسته بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في سبعينيات القرن الماضي ـ ولكن من معايشته للقاهرة في تلك الفترة الحرجة والحية من تاريخها، مخالطا الكتّاب والشعراء والفنانين. وهو عندما يدرّس الآن تاريخ الشرق الأوسط للطلبة، لا يعتمد فقط على كتب ومراجع لا يوجد بها سوى معلومات جافة، لكنه يقدم لهم التاريخ مجسدا في أفلام وروايات. وهو يعتمد بشكل أساسي على تدريس ثلاثية نجيب محفوظ لتنقل للطلبة واقع مصر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا في النصف الأول من القرن الماضي بصورة تبهرهم، حتى إنهم أصبحوا يتنافسون على الانضمام لمحاضراته.
وبالأمس وجدته يبلغني هاتفيا عن محاضرته الأخيرة التي عرض فيها فيلما بعنوان سامية جمال الرائعة ( Samia Gamal, the fabulous) ، حيث شاهد الطلبة عرضا لما يميز هذه الفنانة الفريدة وبدأوا يتناقشون بعدها في أمور كثيرة مرتبطة بها، ليس فقط من الناحية الفنية، ولكن ـ وهذا هو الأهم ـ في القضايا الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية والإسلامية. هذه أمور لا يمكن لغير من عاشوا في الغرب أن يقدروها كما ينبغي. فالصورة الذهنية التي بدأت تتكرس عن العرب والمسلمين أصبحت سلبية للغاية وتتسم بالعنف والإرهاب ومعاداة التطور واضطهاد المرأة إلخ. وهي أيضا صورة ضحلة للغاية تفتقد للعمق أو التنوع، حيث تُختزل شخصيات ملايين الناس في صورة فرد واحد مثل أبو بكر البغدادي أو أسامة بن لادن وقبلهما صدام حسين أو القذافي. وتغيير تلك الصورة الذهنية لا يمكن أن يتم فقط بحوارات ومعلومات حتى لو كانت منطقية، فهناك أبعاد نفسية للمتلقي تحتاج إلى طريقة مبتكرة للتعامل معها لطرح الأفكار الجديدة بأسلوب جذاب وحي يتعايشون معه. الأهم من كل ذلك هو أنه تم إلى حد بعيد نزع البعد الإنساني عن ثقافتنا وحضارتنا، وعندما يتم تقديم هذه الأفلام لهم فإنهم يرون شخصيات (من لحم ودم) لهم مميزاتهم وعيوبهم، لكنهم في نهاية الأمر بشر.
تُرى هل يتصور أصحاب اللحى من "المجاهدين" حجم التشويه الذي أحدثوه لدينهم وثقافتهم؟ وماذا يمكن أن يقولوا لو علموا أن راقصة راحلة تقوم وبعد سنوات طويلة من وفاتها بإصلاح ما أفسدوه؟ هم ولا شك لن يفهموا ما أقوله، وربما ينظرون إليه بسخرية شديدة، كتعبير عن (إسلام أمريكاني) يروج للعري و(هز الوسط). ولكن الحقيقية هي أن هز الوسط هذا هو الطريقة المُثلى الآن لتغيير صورة الوجه المتجهم والفظاظة والقسوة التي أصبحت ترسم ملامحنا، هي صورة خالية من الفن والأدب والجمال والرقة، بل وخالية من الإنسانية ذاتها، تجسدها مشاهد ذبح وحرق، ومع تكرارها يتصور الناس في الغرب أن هذا هو السائد، فإذا بهم يشاهدون وجوها أخرى جميلة ورقيقة وموسيقى ورقصا مبدعا من فنانة مثل سامية جمال، أو الشخصيات الرائعة لثلاثية نجيب محفوظ ، عندها يبدأون في الاقتراب من هذا العالم الغامض بحب وتفهم وتعاطف بعيدا عن مشاعر الخوف التي أراد لها البعض أن تسيطر عليهم.
لقد كتبت مؤخرا مقالا بعنوان "جامعة الثقافة العربية" أكدت فيه ضرورة أن تركز الجامعة على دور آخر جديد لها للدفاع عن الثقافة العربية وفنونها وآدابها، لكنني لست متفائلا كثيرا بأن المسئولين فيها سينتبهون لذلك، لأنهم يريدون الحفاظ على (البريستيج) الخاص بعملهم في القضايا السياسية حتى مع إدراكهم لمحدودية دورهم الذي صار شكليا في أغلب الأحيان، وبهذا تضيع ميزانية الجامعة العربية وملايينها على (شغل السيما) بينما يُترك الترويج الحقيقي للسينما والفنون والآداب والثقافة العربية عموما لجهود فردية من الدكتور أحميده وغيره من أصحاب الرؤية الذين أصبحوا حائط الصد الأول في مواجهة الهجمات الساحقة على ثقافتنا وتراثنا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة