لا أحد يختلف على أن أنيس منصور، الذي تحل ذكرى ميلاده الـ92 في هذا الشهر، كان صاحب قلم نادر وبديع.
برغم أن كثيرين قد يختلفون معه في مواقفه أو أفكاره أو انحيازاته الشخصية، إلا أنه لا أحد يختلف على أن أنيس منصور (1924- 2011) الذي تحل ذكرى ميلاده الـ92 في هذا الشهر (من مواليد 18 أغسطس) كان صاحب قلم نادر وبديع، وكان يستطيع أن يصل إلى قارئه عن طريق أبسط الكلمات وأكثرها تكثيفًا. ولا شك أيضًا في أنه أحد أبرز الظواهر الصحفية و(الثقافية) في مصر والعالم العربي؛ بسبب الشهرة الكبيرة التي نالها في سن مبكرة، وغزارة الإنتاج، فضلًا عن شبكة علاقاته الواسعة بأبرز الشخصيات العامة في عصره، في السياسة والصحافة والفن والثقافة.
250 كتابا بالتمام والكمال، عدا ما يصعب حصره من المقالات والكتابات غير المنشورة، هي حصيلة ما استودعه أنيس منصور من كتب ومؤلفات، ولعله واحدًا من أغزر المؤلفين المصريين (والعرب) إن لم يكن أغزرهم في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو في ذلك يعد، بصورة ما، استمرارًا واستكمالًا لجيل من المفكرين والأدباء والكتاب شهروا بغزارة الإنتاج، وكان عطاؤهم ونتاجهم العلمي والأدبي يشكل في مجموعه مكتبات زاخرة سخية من المعارف والعلوم والفنون والآداب، هو في ذلك -من حيث الكم- نافس بل ربما فاق طه حسين والعقاد وهيكل وأحمد أمين وسلامة موسى وتوفيق الحكيم، وآخرين.
وما بين الكتاب رقم (1) والكتاب رقم (250)، رحلة طويلة مديدة عامرة بكل ما يمكن أن يدهشك ويعجبك ويثير سخطك أيضًا! لكنك أبدًا لا تترك كتابًا له، أمسكت به وشرعت في قراءته قبل أن تتمه، أو تطالع بعينيك السطر الأول من مقاله اليومي، المنشور هنا أو هناك، بهذه الجريدة أو تلك، إلا وتجد نفسك مسحوبًا بكامل إرادتك ورغبتك في متابعة ما يقول حتى لو كان "ريان يا فجل"!.
هذا هو أنيس منصور، بارع براعة لا توصف في أن يجذب إليه آلاف القراء، في نفس واحد، لمتابعته وقراءته حتى لو كانوا من أشد مخالفيه في الرأي أو من الحانقين عليه أو حتى من الكارهين!
أول كتاب لأنيس منصور فوجئ به مطبوعًا وعليه اسمه، كان كتاب (وحدي مع الآخرين)، يحكي أنه قرأ على غلافه الخارجي العبارة التالية "مقالات بقلم أنيس منصور"، وهو عبارة عن مقالاته التي كان ينشرها آنذاك بـمجلة (الجيل)، وكانت كل علاقته بهذه الكتاب أنه وقع تحت يده مصادفة، أثناء زيارته لدمشق حين عثر عليه في حي سوق الحميدية الشهير بسوريا، ولم يكن له صلة لا بجمعه ولا بنشره، ولم يكن يعلم من الأساس أن هناك كتابًا مطبوعًا له يطبع ويوزع بهذا البلد الشقيق، ما جعله يشعر كأنه بحار استلم خطابًا بأن زوجته ولدت ففرح!! بحسب روايته، فهذا أول كتاب له صدر في غيابه وبغير علمه!
أما أول كتاب ولد على يديه، وطبع ونشر بمعرفته، فهو كتابه الشهير (الوجودية) الذي نشرت طبعته الأولى عام 1951، وكان عمره آنذاك 27 سنة، وهو كتاب صغير يمكن أن يدرج في عداد الكتب التعليمية المبسطة، بلغة عربية سهلة، وكان دائمًا ما يعتز بأنه من أسبق الأعمال المكتوبة بالعربية للتعريف بالوجودية، وقد طبع من الكتاب أربع طبعات في شهر واحد، ونفدت نسخه المائة ألف، وهو يرد سبب ذلك إلى أن الموضوع كان محل اهتمام الناس في ذلك الوقت، وجاء في عبارة سهلة المأخذ ميسورة الفهم. ويكاد يكون هذا الكتاب أيضا الوحيد المخصص بكامله للفلسفة، وهي من الأشياء اللافتة والمثيرة للدهشة في نتاج أنيس منصور الفياض.
وما بين الكتابين الأول والأخير، توالت وتتابعت كتب أنيس منصور كالشلال في كل فروع المعرفة وفي كل المجالات: صحافة، سياسة، أدب، تاريخ وتراجم، دراسات نقدية، قصص ومسرحيات، مترجمات، رحلات، دراسات نفسية. سجل (سيرته الذاتية) في أكثر من كتاب، منها "البقية في حياتي"، "طلع البدر علينا"، "إلا قليلًا"، "حتى أنت يا أنا". لكن يبقى من بينها كتابه الأهم والأضخم (عاشوا في حياتي) الذي خصصه لأهم مراحل حياته وبالأخص فترة الطفولة وتفتح الوعي وعلاقته بأمه التي شكلت وجدانه وحياته ومستقبله كله فيما بعد، وأيضًا ما تأثر بوالده فيه، وفترة الكتاب وحفظه القرآن، وسجل في هذا الكتاب صفحات بديعة ورائعة يصف فيها بأسلوبه الرشيق كثيرًا من المعتقدات والعادات الشعبية التي كانت وما زالت تسود في قرى مصر وريفها، وهي في رأيي تمثل مادة فلكلورية طيبة لا غنى عنها لأي دارس أو باحث في المأثورات الشعبية.
وفي (أدب الرحلات)، أسهم أنيس منصور بنصيب وافر من الرحلات التي جاب فيها أنحاء العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، دونها في كتب كثيرة.. "اليمن ذلك المجهول"، "بلاد الله.. خلق الله"، "أطيب تحياتي من موسكو"، "أعجب الرحلات في التاريخ"، "غريب في بلاد غريبة".
لكن يظل من بينها جميعًا كتابه الأشهر والأكثر إمتاعًا وجمالًا (200 يوم حول العالم) نموذجًا رائعًا لأدب الرحلة في الأدب العربي الحديث، وكذلك كتاب (في صالون العقاد كانت لنا أيام)، من أكثر كتبه رواجًا وانتشارًا وذيوعًا، ومارس تأثيراته البالغة على أجيال كاملة من الشباب والكتاب والصحفيين، وتخطى عدد طبعاته الخمسين، ومنذ سنوات قليلة احتفل أنيس منصور بصدور النسخة المليونية من هذا الكتاب الذي حطم كل الأرقام، ومثل ظاهرة لا تتكرر كثيرًا في عالم النشر والكتب والمطبوعات، ووضع اسم أنيس منصور في مصاف أهم وأعظم كتاب أدب الرحلة في مصر خلال القرن العشرين.
أما كتابه الأشهر أيضًا -الكثير جدًا من كتبه يتنازع صفة الأشهر!- (في صالون العقاد كانت لنا أيام)، فكتاب ضخم فاتن، ولا أظن أن كتابًا في الأدب وتاريخ تلك الحقبة الساطعة من الفكر والثقافة، (تاريخ الفكر والثقافة المعاصرة)، جذب الناس واستحوذ على إعجابهم لفترة طويلة من الزمن مثلما جذبهم هذا الكتاب.
فصوله عبارة عن الحلقات التي كان ينشرها أنيس منصور أسبوعيًا على صفحات مجلة (أكتوبر)، وكان القراء ينتظرون صدور المجلة على أحر من الجمر، ثم يتلقفونها بمجرد صدورها لقراءة ما يكتبه أنيس عن العقاد، وذكرياته معه، كذلك كان أنيس منصور، تلميذًا نجيبًا من تلامذة العقاد الكبار، لم يفتأ يذكر أنه كان على رأس أهم الكتاب الذين أحبهم وتأثر بهم واختلف معهم، لكنه لم يسمح لنفسه أن يكون من دراويشه المسبحين بحمده والدائرين في فلكه، ورغم ذلك فلم يستطع أنيس إلا أن يفرد للعقاد هذه الدراسة الضخمة التي قارب عدد صفحاتها السبعمائة صفحة من القطع الكبير.
ربما كان التأثير الأكبر والأهم لأنيس منصور، هو الغاية التثقيفية التبسيطية التي لعبها باقتدار لعقود طويلة، وخاصة عبر عموده في الأهرام "مواقف، اقترن اسمه بنافذة مشرعة على مصراعيها لكل مقبل على القراءة ومحب للمعرفة وشغوف بالاطلاع، بتحسس خطواته الأولى، كان أنيس منصور محطة مهمة ورئيسية في حياة أجيال كاملة من الشباب الذي نشأ على قراءة كتبه ومتابعة مقالاته.