التطرف داء عضال، ومرض فتاك، يشمل الانحراف في الشهوات والشبهات، وقد تكون البداية الأولى بذوراً منثورة
التطرف داء عضال، ومرض فتاك، يشمل الانحراف في الشهوات والشبهات، وقد تكون البداية الأولى بذوراً منثورة، لا تلبث أن تُغذَّى فتكبر، لتصبح أشواكاً جارحة، وقد تكون هذه البداية شبهة صغيرة، أو شهوة خفية، أو فكراً ضعيفاً، تتحول تدريجياً إلى أمواج عاتية تُغرق صاحبها، حيث لم يسارع إلى العلاج بقلب صادق وعقل مفتوح، فيقع في الإساءة في التعامل مع الخالق والمخلوقين.
ففي إطار التعامل مع الخالق نجد أن التدرج في التطرف كان طريقاً للانحراف عن عبادة الله تعالى، وكان مبدأ ذلك هو الغلو في الصالحين، وهذا الغلو جر تدريجياً إلى غلو أكبر حتى وصل إلى الإشراك بالله، يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
«وَدٌّ وسُواع ويغوث ويعوق ونَسر أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عُبدت»، رواه البخاري، وكانت الأمم قبل ذلك على شريعة الحق ملة آدم قروناً كثيرة، قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة}، فانظر كيف كان التدرج في التطرف سبباً لافتراق بني آدم بعد أن كانوا جميعاً على ملة واحدة قروناً طوالاً.
وهكذا أيضاً في جانب التطرف الفكري، فقد يبدأ الأمر بغلو في عبادة، أو تأثر بمقطع مرئي لأحد الغلاة، أو قراءة عبارة تتضمن شبهة متطرفة، وقد يكون مبعث ذلك الفضول، ثم تبدأ دائرة الغلو تتسع، وصوره تتشعب، بحسب المؤثرات التي يتعرض لها الشخص، فيقع في براثن الأفكار والتنظيمات الإرهابية، فيجني على نفسه وأسرته ووطنه.
وإذا استعرضنا التاريخ القديم والحديث نجد أمثلة كثيرة على خطر التدرج في التطرف، تبين أن مشوار الإرهاب يبدأ بخطوة واحدة، وأن العتبة الأولى للغلو قد تجر إلى الهاوية، فمن أمثلة ذلك أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه دخل المسجد ذات يوم، فرأى قوماً متحلقين، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصا، يأمرهم بالتكبير والتهليل والتسبيح، فنهاههم عن هذا التكلف والتحزب، فقالوا:
ما أردنا إلا الخير، فقال: «وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم»، وكانت هذه الفراسة في موضعها، فقد تطور فكر هؤلاء حتى كانوا مع الخوارج يوم النهروان، فانظر كيف تدرج الغلو بهؤلاء حتى وصلوا إلى درك الإرهاب والتكفير والخروج على الدولة وأصبحوا مجرمين قتلة؟
وهكذا في التاريخ المعاصر نجد أمثلة كثيرة على التدرج في التطرف، خاصة بين التيارات المتشددة، التي أصبح بعضها جسوراً إلى بعض، فالإخوان جسور للقاعدة وداعش، وكثير من رموز القاعدة وداعش كانوا من الإخوان كابن لادن والظواهري والبغدادي.
كما أن جماعة التبليغ جسر للجماعات المتطرفة، وكثير من المتطرفين كانوا من أبناء هذه الجماعة، مثل جهيمان صاحب التنظيم المسلح الذي اعتدى على الحرم المكي عام 1979م، وكثير من أفراد جماعة التكفير والهجرة المصرية، ويوسف فكري الملقب بأمير الدم زعيم جماعة التكفير والهجرة المغربية، وأبي قتادة الفلسطيني منظر تنظيم القاعدة، وشافعي مجد الأمير السابق لجماعة الشوقيين التكفيرية، فكل هؤلاء كانوا تبليغيين، وقد أثبتت التحقيقات الواسعة التي أجريت إثر اغتيال السادات أن كثيراً من أعضاء وقادة الفصائل خاصة تنظيم الجهاد كانت بدايتهم من جماعة التبليغ.
كما ثبت أن إبراهيم عزت زعيم جماعة التبليغ في مصر في وقته وكان من الإخوان قبل ذلك قال لمحمد عبد السلام فرج المتهم الأول باغتيال السادات: «أنا أحضر لكم الناس من الشارع للمسجد وأنتم تولوا الباقي»، وارتبط اسم جماعة التبليغ بالعديد من عمليات الإرهاب في العالم، مثل تفجيرات مترو باريس 1995 والدار البيضاء 2003.
حيث ثبت انخراط مرتكبيها في نشاط جماعة التبليغ في وقت سابق، إلى غير ذلك من الأمثلة، ولم يأت هذا الارتباط اعتباطاً، فهناك مشتركات عدة بين هذه الجماعات، مثل التحزب، والبيعة، والعزلة، والغلو في نقد الواقع وسوء تصويره والتهييج ضده، والموقف السلبي تجاه الحكام، إما عن طريق التحريض والمصادمة، أو بترك التأييد والمناصرة.
وهكذا أيضاً في جانب التطرف في الشهوات والانحرافات وقتل النفس بالمسكرات والسموم، فقد يبدأ مشوارها تدريجياً عبر الخطوة الأولى، يقول شوقي:
«نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ.. فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ»، وكتب الأديب المنفلوطي مقالة بعنوان الكأس الأولى، نقل فيها قول صاحبه: «شربت الكأس الأولى، فخرج الأمر من يدي، وكل كأس شربتها جَنَتها عليَّ الكأس الأولى»، وهكذا تجار السموم يحاولون أن يضعوا الشباب على العتبة الأولى لأبوابهم، فإذا نجحوا في ذلك فما بعده أيسر عليهم.
هذه الحقائق توجب على الإنسان أن يكون حذراً يقظاً، وألا يستصغر الأشياء الصغيرة لكي لا يقع في الأمور الكبيرة، وأن يضع بينه وبين الخطوة الأولى في أي مجال سيئ حواجز، وقد رسَّخ القرآن هذا المنهج، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان}، وقال سبحانه: {ولا تقربوا الفواحش}، فنهى عن مجرد الاقتراب تحصيناً للإنسان من شراك الخطوة الأولى.
نقلًا عن صحيفة البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة