سينما المحرقة.. جمالية صورة وخُبث مضمون
لن يكون الاحتفال الأوروبي بـ"ابن شاول"، أول روائي طويل للمخرج الهنغاري لازلو نيميس (1977)، حائلاً دون التنبّه إلى السؤال الأعمق
لن يكون الاحتفال الأوروبي بـ"ابن شاول"، أول روائي طويل للمخرج الهنغاري لازلو نيميس (1977)، حائلاً دون التنبّه إلى السؤال الأعمق، المتعلّق بكيفية استخدام "المحرقة النازية" كمادة سينمائية قادرة، دائماً، على مزج براعة الصورة بالمضمون الخبيث والمبطّن في ثنايا الحكايات الإنسانية. جديد نيميس، الحائز على الجائزة الكبرى في الدورة الـ 68 (13 ـ 24 مايو 2015) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ، يخرج قليلاً على المتّبع في "أفلام المحرقة"، لأنه يُحرّر نصّه من كلّ صورة مباشرة للجريمة النازية، مُفرداً مساحة واسعة أمام الصوت لخلق مناخ يُدخل المُشاهد في حالة نفسية تضعه في قلب الفعل الجرميّ من دون أن يرى أهواله.
الاحتفال الأوروبيّ بالفيلم نابعٌ من إطلاق عروضه التجارية، قبل نحو أسبوعين، في مدن مختلفة، بما فيها بودابست، المدينة التي وُلد فيها لازلو نيميس، وعاصمة أحد أكثر البلدان الأوروبية الشرقية عنصرية وقسوة ضد اليهود، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) وأثناءها. احتفال متمثّل بكمٍّ هائل من المقالات والملفات الصحافية والبرامج الإعلامية، التي يُشارك مفكّرون ومحلّلون اجتماعيون ونفسيون في وضعها، انطلاقاً من هواجسهم العلمية والفكرية، المنصبّة أساساً على إعادة قراءة المحرقة من خلال "ابن شاول".
احتفال يستحقّه الفيلم على المستوى السينمائي، لبراعةٍ في تحرير النصّ من مَشَاهد معروفة ومُكرَّرة في أفلام كثيرة سابقة. فالفيلم مهتمّ بحكاية شاول (يؤدّي دوره الكاتب والشاعر الهنغاري غيزا روريغ)، اليهودي العامل في فرقة "سوندركوموندو" داخل "أوشفيتز"، التي يُنشئها النازيون من رجال يهود، للعمل داخل المعتقل الأشهر: مواكبة قوافل اليهود المرحّلين إلى الموت، وإدخالهم أفران الغاز، وترتيب ملابسهم وأوراقهم وأغراضهم لتسليمها إلى النازيين، ثم نقل الجثث إلى المحرقة، ورمي الرماد في النهر، وتنظيف المكان، قبل استقبال قوافل أخرى.
العمل بحدّ ذاته مدمِّر لكلّ حسّ إنساني: يهود يرافقون أبناء دينهم وبلداتهم إلى موتٍ مؤكّد، بانتظار موعدهم هم أنفسهم مع الموت الماثل أمامهم كل ثانية. "ابن شاول" لا يُقدّم هذا كلّه إلا من خلال عيني شاول وحركاته وانفعالاته "الجامدة". الكاميرا لا تفارقه، كأنها عيناه الاثنتان. قليلةٌ جداً هي صُوَر الجثث، والوجوه الأخرى للمرحّلين، ولقطات الدفن الجماعي. شخصيات محيطة بشاول تظهر على الشاشة بين حين وآخر، كي يكتمل مشهدٌ، أو كي يتأكّد فعلٌ. شاول يعثر على مراهق لا يزال يتنفّس بعد إخراجه من أحد أفران الغاز، لكن طبيباً ضابطاً نازياً يخنقه. يتطوّع شاول، من تلقاء نفسه، لدفن المراهق بحسب التعاليم الدينية اليهودية. يبحث عن حاخام. يتورّط مع يهودٍ يريدون خلاصاً من الجحيم بأي ثمن. لكنه يفشل. النهاية معروفة: الناجون من المحرقة هم الذين أنقذتهم نهاية الحرب تلك.
النقاش السينمائيّ مشروعٌ. الفيلم مُكثّف ومشغول بحرفية بصرية لافتة للانتباه، على مستويي الصورة والصوت أولاً، لكن أيضاً على مستوى الأداء الرائع لغيزا روريغ، وهو غير محترف في مجال التمثيل. قدرة المعالجة المتكاملة على التأثير في المشاهدين كبيرة: "فيلم رائعٌ جداً، على الرغم من وحشية الجريمة"، يقول مشاهد بلجيكي لي بعد مغادرة الصالة. الأوروبي لن ينتبه إلى ما لم يُقدِّمه الفيلم: تحوّل الضحية إلى جلاّد. قوّة الصورة الجمالية لن تمنع على مشاهدين آخرين إدراك بشاعة الجريمة النازية، والتنبّه إلى خطورة المبطّن في أفلامٍ ترويها. عندما يستمع البلجيكي إلى وجهة النظر هذه، لا ينطق بكلمة. يغادر بهدوء فقط، كأنه لم يسمع، أو كأنه خائفٌ من الاستماع إلى ما يعرفه ربما.
اليهود مُصرّون على متابعة مسلسل "أفلام المحرقة"، بعد 70 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية. يجدون في المحرقة أداة لترويع أوروبا والغرب، والاستمرار في ابتزازهم. يُنقّبون عن قصص قد تكون مجرّد أوهام، محوّلين إياها إلى وقائع سينمائية على الأقل. يعثرون على قصص أخرى لم تُروَ، فلا يتردّدون أبداً عن الاشتغال عليها وترويجها هنا وهناك. يُتقنون ابتكار الأجمل والأهمّ سينمائياً، كي يبثّوا رسائلهم عبر التأثير المباشر بالمتلقّي، والمتلقّي الأوروبي خاضعٌ لسطوة كهذه، إما لانجذابه إلى براعة الصورة في تصنيع سينما جميلة، وإما لرضوخه لقسوة التاريخ، وإما لعدم إدراكه فعل التحوّل الأخطر لليهودي المنتقل من ضحية إلى جلاّد.
لن يكون اليهود وحدهم بارعين في هذا المضمار. أوروبيون عديدون ملتزمون فعلاً ثقافياً وفنياً كهذا. لازلو نيميس مهموم في كيفية إعادة تكوين الحسّ الإنساني اليهودي في مواجهة وحشية النازي، ومهموم في ترتيب أوضاع البيت الهنغاري إزاء اليهود، إن صحّ التعبير. لكن هذا لن يمنع قراءة أخرى، لا تغفل الجمالية السينمائية للفيلم، ولا تنسى معنى أن يكون "ابن شاول" جزءاً أساسياً من الحملة التاريخية المزمنة لتقديم اليهودي ضحيةً من دون سواه. كأن النازيين لم يقتلوا شعوباً أو فئات دينية/ عرقية أخرى، أو كأن القرن الـ 20 لم يشهد مجازر غير "المحرقة" بحقّ أناس، تهمتهم الوحيدة أنهم منتمون إلى فئات دينية ـ إثنية ـ اجتماعية محدّدة.
هذا جزءٌ من صراع يتّخذ السينما حقلاً دقيقاً وحسّاساً، لن يبقى عربٌ عديدون بعيدين منه. فالسينما العربية تصنع أفلاماً مرتبطة بحكايات ناسها، خصوصاً على المستوى الفلسطيني، إذ إن لها مخرجين يمتلكون مكانة أساسية في المشهد الدولي، بفضل أفلام سينمائية ـ متكاملة شكلاً ومضموناً ـ يُحقّقونها عن حكايات الفرد الفلسطيني في مواجهة آلة القتل الإسرائيلي. أفلام تعثر، هي أيضاً، على مشاهدين أوروبيين يرون فيها "جانباً آخر" من الحكاية، على الأقل.
aXA6IDMuMTQ5LjIzNy4yMzEg جزيرة ام اند امز