مما لا جدال فيه أن حزب العدالة والتنمية التركي، ورئيس الدولة، رجب طيب أردوغان، يواجهان لحظة سياسية تكثف المعنى العميق
مما لا جدال فيه أن حزب العدالة والتنمية التركي، ورئيس الدولة، رجب طيب أردوغان، يواجهان لحظة سياسية تكثف المعنى العميق، وراء ما حدث أثناء الذروة الانقلابية واستتباعاتها الثقيلة. من المؤكد أن تلك اللحظة لم تأت من فراغ، ولا هي بعيدة عن السجالات التاريخية المشهودة عند أنصار علمانية مصطفى كمال أتاتورك، المدججة بمؤسسة الجنرالات، وبين القائلين بها وفق الخصوصية التركية التاريخية، علماً بأن هذه المقولة، ليست حكراً على حزب العدالة والتنمية، الإسلامي، بل تتصل بجذور متعددة وراسخة عند القوميين الطورانيين، والليبراليين المفارقين لوحشية الرأسمالية القادمة من قرون الظفر الكبير للبرجوازية الأوروبية الصاعدة، وحتى التيارات اليسارية والوسطية.
وبهذا المعنى يمكننا القول إن حزب العدالة والتنمية ورث هذه التقاليد والرؤى، وأضفى عليها الخصوصية التركية التي لا يمكنها أن تبتعد عن الإسلام بالمعنى الواسع للكلمة. الشاهد على معنى تلك الخصوصية، ذلك السلوك الأوروبي الغربي، الذي كان عاملاً مهماً من عوامل القراءة النمطية الثابتة للحالة التركية، بما في ذلك تقييم المرحلة الأتاتوركية التي جاءت بعد الحرب العالمية الأولى، وأنجزت قيام الجمهورية التركية والوحدة الجغرافية السياسية لمنطقة الأناضول الواسعة، وكان تخلي الأتاتوركية عن الخلافة العثمانية قريناً بإنجاز الجمهورية التركية، وحمايتها من التقسيم والاندثار.
أوروبا الغربية المتحالفة مع الولايات المتحدة، وعلى مدى أكثر من نصف قرن ظلت تتعامل مع العلمانية التركية، بالروحية المستوردة ذاتها، من صدامات العثمانيين التاريخية مع المسيحية السياسية الأوروبية، وهو ما ظهر بصورة سافرة في التعامل مع تركيا الأطلسية. ففي الوقت الذي ظلت فيه قاعدة إنجرليك العسكرية الاستراتيجية، مشفوعة بقبول أطلسي ناجز، تمت إعاقة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، تحت مبررات واهية، فقواعد المعايير الخاصة بالقبول في الاتحاد الأوروبي، انطبقت على كل دول شرق أوروبا الخارجة من رحم الدواوينية الإدارية الجامدة، والتكلس الاقتصادي، فيما أصبحت صعبة المنال بالنسبة لتركيا الناهضة، لمجرد كونها منحدرة من ذاكرة الإمبراطورية العثمانية، وهو الأمر الذي فاقم من تساؤلات واحتجاجات النخب السياسية التركية، لشعورها بأن الاتحاد الأوروبي، يطبق تلك المعايير الافتراضية الخاصة بالانضمام للاتحاد الأوروبي بمكيالين مفصلين على أوروبا الجغرافية، بشقيها المسيحي والإسلامي، وهو ما يوضح من طرف خفي، معنى الثبات في تقييم تركيا، بوصفها سليلة الإمبراطورية العثمانية المقلقلة تاريخياً للذاكرة الأوروبية، ولقد ظلت هذه الحقيقة شاخصة منذ إنشاء السوق الأوروبية المشتركة، وما تلاها من اتحاد أوروبي، وقبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم.
تلك المقدمات أومأت ضمناً إلى الأدلة المقرونة بالتفارق الاستيهامي، بين تركيا الإسلامية الأشعرية، وأوروبا المسيحية، بشقيها الكاثوليكي البروتستانتي، فيما ظلت المسيحية الأرثوذكسية المشرقية، بعيدة عن تلك الحالة، ومن هنا القابلية الكبيرة لإمكانية تطور العلاقات بين تركيا الإسلامية، وروسيا الأرثوذكسية، حتى أن زيارة أردوغان الأخيرة لموسكو ولقاءه القيصر الروسي الجديد، بوتين، بدا شبيهاً بلقاء سلطان عثماني مع نظيره القيصري.
بهذه المناسبة تجدر الإشارة إلى القاسم المشترك بين روسيا التاريخية وتركيا التاريخية، كونهما صادرتين عن إمبراطوريتين، أورو آسيويتين سابقتين، على متغيرات ما قبل وبعد الحرب العالمية الأولى، كما أنهما كانتا مستبعدتين إجرائياً وتاريخياً عن ترتيبات البيت الأوروبي الغربي، لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وحتى يومنا هذا.
وإذا أضفنا إلى تلك المقدمات حالة التباعد الراهن بين المنظومة الأطلسية وموسكو، بالترافق مع التعامل الحذر، بين ذات المنظومة الأطلسية وتركيا، فإننا حينها سنرى المعنى الكامن وراء التقارب الروسي التركي المحتمل، وهو تقارب من شأنه أن يخل بكامل المعادلات الجيوسياسية، إذا ما سار قدماً، كما يتوقع بعض المراقبين.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الكيانات السياسية الكبرى لا تتقارب أو تتباعد على قاعدة الانعطافات الحادة المألوفة عند البيادق الصغيرة، بل على أسس متدرجة وراسخة، تبدأ بالتعاون الشامل، وصولاً إلى التكامل، فالتحالف الوثيق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة