رحت أنقب عن أسباب أكثر أو أقوى من مجرد اضطرابات اجتماعية أو عمليات تطهير سياسي أو حرب جديدة ضد فساد يصر على ألا يغادر أو يقهر
حل بالصين سكون غريب.
سكون غير مألوف لمن يعرف عن الصين الكثير أو القليل. رحت أنقب عن أسباب أكثر أو أقوى من مجرد اضطرابات اجتماعية أو عمليات تطهير سياسي أو حرب جديدة ضد فساد يصر على ألا يغادر أو يقهر.
هذه التطورات ليست غريبة عن المجتمع الصيني المعروف منذ القدم بولعه بالأصوات الزاعقة والاحتفالات الصاخبة. كنت مقتنعاً في مرحلة معينة بأنني لو كنت حاكماً على الصينيين لخشيت على نظام حكمي واستقرار بلدي إذا عم السكون وهدأت الأصوات. أود أن أبالغ بعض الشيء فأجازف بالقول إن أغلب من سمعت أو قرأت عنهم من حكام الصين في تاريخها الممتد فكروا في إثارة بعض الفوضى أو التظاهرات والاضطرابات في كل مرة تجاوز الهدوء المدة المتوقعة وركن الناس والبيروقراطية وحكومات الأقاليم والمؤسسات عموماً إلى السكون.
سكون هذه المرة بعيد عن الغموض، وأبعد منه رد فعل الحكام. الصين حكومة وبيروقراطيون ونقابات وجامعات ومراكز بحث منشغلة بالاستعداد لانعقاد القمة العشرين. تابعت، أحياناً عن بعد وكثيراً عن قرب، معظم القمم السابقة، وأستطيع أن أقرر باطمئنان أنه لم يحدث أن بذلت دول مضيفة للقمة ما بذلته الصين خلال الشهور الماضية من جهود وأموال وتعبئة جماهيرية وما استعدت به من دراسات وأوراق عمل.
شكلت الصين على امتداد العام المنصرم ورش عمل متعددة الأطراف وأقامت ندوات ومؤتمرات علمية ودعت لزيارتها علماء من مختلف الدول يعرضون ابتكاراتهم العلمية وحلولهم لمشكلات الاقتصاد والمجتمع في دولهم وفي العالم ككل.
حددت الصين، بالتشاور مع خبراء أجانب، عشرة أهداف للقمة التي تنعقد لأول مرة في دولة نامية، بمعنى آخر انتهى زمن تسليم قيادة العالم للأغنى والأقوى. أصبح من حق «أكبر دولة نامية في العالم وربما في التاريخ الحديث» عقد مؤتمر تحت قيادتها تحضره أغنى الدول وأقواها، تضع الدولة النامية جدول أعماله وتحدد أهدافه العشرة، وتختار عنوانين لعمل القمة، أولهما أجندة التنمية المستدامة 2030 وثانيهما التنمية طريق النمو. تريد الصين التأكيد مجدداً على أن النمو في حد ذاته ليس ويجب ألا يكون الشغل الشاغل للبشرية، الشغل الشاغل يجب أن يكون التنمية، فالتنمية هي الهدف وهي الطريق في الوقت ذاته.
ينبع اهتمامي بهذه القمة تحديداً من اعتبارات لا تقع مباشرة تحت عناوين الاستعداد للقمة ووضع الترتيبات التي تضمن نجاحها.
أتصور أن المسؤولين الصينيين ما كانوا يتطوعون أو يقبلون استضافتها لو لم يكونوا هم أنفسهم تحت ضغط شديد من الوضع الدولي المحيط بالصين وبغيرها من الدول الصاعدة.
أتفق مع رأي أعرب عنه أستاذ بمعهد الدراسات الصينية في نيودلهي في شهر مايو من العام الماضي. جاء في هذا الرأي السليم أن العالم يعيش مرحلة تداخلت فيها أربعة عناصر تشكل في مجموعها وتمازجها البيئة التي نتحرك فيها وقد نبقى أسرى لها لمدة طويلة قادمة. أما العناصر فهي بالترتيب؛ أولاً: أزمة اقتصادية عالمية نشبت في عام 2007 ولم تغادرنا تماماً، ولكنها الأزمة التي تركت الولايات المتحدة في وضع اقتصادي صعب، وبالتالي غير مناسب لطموحات الصين التجارية.
ثانياً: رخاوة سياسية واقتصادية تتصف بها معظم دول العالم وبخاصة الدول الكبرى، وأظن أنني عبرت عن هذه الحالة في مقال سابق حين وصفت الدول الكبرى بضعف لم تكن تتصف به من قبل.
ثالثاً العناصر: هي أن «الدولة» في الوقت الراهن على الأقل لم تعد تحتكر وسائل العنف والحق في استخدامه. هناك في كل مكان تنتشر جماعات ومنظمات تمتلك وسائل عنف مثل تلك التي تمتلكها الدولة وكانت تزعم لنفسها الحق في احتكارها. لم تعد الدولة ركن الأساس في هياكل النظام الدولي.
رابعاً: السرعة الهائلة التي تتجدد بها التكنولوجيات الحديثة، هذه السرعة قد تمثل دافعاً للإسراع في التنمية ولكنها في الوقت نفسه قد تشكل عائق تنمية. فالتكلفة المرتفعة لعمليات التحول نحو استخدام هذه التكنولوجيات تعقد فرص التنمية السريعة وتثقل على كاهل برامج التعليم.
أضيف من جانبي عنصراً خامساً إلى العناصر التي تتكون منها البيئة الحاضنة للتنمية المستدامة وحتى 2030، هو حال عدم الاستقرار وعمق التحولات الجيواستراتيجية التي تخض عالمنا وأقاليمنا ومجتمعاتنا خصاً شديداً.
هو العنصر الأقوى حسماً عند اللزوم إذا وضعنا في الاعتبار، وبخاصة الاعتبار الصيني، مبلغ الخطر الذي يجسده الاندفاع الروسي بقيادة فلاديمير بوتين لتعويض ما فاته وفات روسيا خلال سنوات الضياع في أواخر العهد السوفييتي وأوائل العهد البوتيني.
قد يبدو للبعض هنا في الشرق الأوسط أن في الحديث عن خطورة التمدد الروسي الجديد مبالغة وهو ليس كذلك على كل حال، وكذلك بالنسبة لدولة كبرى صاعدة كالصين فالأمر لا شك يثير القلق وبالتالي يؤثر بقوة في عملية البناء وإثبات الحق في دور ومكان في النظام الدولي فضلاً عن أنه يذكّر الحكام الصينيين بنزاعات حدودية وخلافات قوية في أعقاب إعلان قيام الدولة الشيوعية الصينية في نهاية الأربعينات وعلى طول الخمسينات. هناك أيضاً الاحتمال المتزايد بأن تكون الدول الكبرى قررت جميعها أن تتفادى الحروب الثنائية المباشرة في سباقاتها نحو النفوذ وإعادة رسم توازن جديد للقوة، ولذلك فالأمر الغالب هو أن تركز تنافسها وسباقاتها في أقاليم الهوامش، إن صح التعبير. لدينا نماذج مبهرة على هذه الحروب غير المباشرة في الشرق الأوسط وفي بحر الصين الجنوبي وأفغانستان وأوكرانيا.
أتصور أنه في ظل هكذا صعوبات وتحديات سوف تصر الدولة المضيفة على استبعاد أي محاولة لجر المؤتمر لمناقشة قضايا أو صراعات سياسية. تتمنى الصين، على الأقل خلال قمة العشرين، أن ينصب الاهتمام على الاقتصاد.
*نقلا عن جريدة "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة