لن تحتاج المخيلة لجهد كبير لوضع تصور عما ستؤول إليه العراق بعد هزيمة داعش، إذ ليس من المتوقع أن يشهد البلد استقراراً على المدى المنظور
لن تحتاج المخيلة لجهد كبير لوضع تصور عما ستؤول إليه أوضاع العراق بعد هزيمة تنظيم داعش، إذ ليس من المتوقع أن يشهد البلد استقراراً على المدى المنظور، فالعدو الإرهابي لن يقر بالهزيمة ويخلد للراحة بل سيغير إستراتيجياته ليطل مقتنصاً فرصة هنا وأخرى هناك، إلا أن ما سيطغي على سائر ما لغيره إندلاع الصراعات التي تأجلت استحقاقاتها بسبب العروض التي قدمها تنظيم داعش على المسرح العراقي، فإرهاصات ذلك قد بدأت مبكراً ومؤشراتها لا تتقبل الخطأ.
الصراعات الداخلية تبقى عادة ذات طابع سلمي في الدول الديمقراطية حيث تحتكم أطراف الصراع لآلية الحوار وقد يتوسع ذلك إلى زج الجمهور بها عبر الإسهام في الوقوف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك في مواقع التواصل الإجتماعي أو في الصحافة أو في الشارع من خلال الإعتصامات أو التظاهرات، ورغم الصور المتنوعة التي تعرض هذه الصراعات نفسها إلا أنها تبقى سلمية لا تتحول للعنف لأن شعوب هذه الدول قد غادرت الماضي وتركت نزاعاته المسلحة خلف ظهرها فالجميع يعمل لصالح البلد ولكن بقراءات ومقاربات مختلفة بعيدا عن التأثر بأجندة قوى خارجية فلا أحد يطعن بوطنية أحد آخر من قريب أو بعيد.
إلا أن الصراعات التي تلوح في الأفق العراقي لن تكون كذلك لأن الطبقة السياسية الغارقة في الفساد والتي احتكرت الظهور على المسرح السياسي قد أوصلت العراق إلى حالة الإحتراب الداخلي حين أخضعت هذه الصراعات وآليات إدارتها إلى معادلات الولاء للأطماع الإقليمية، فقد نجح الجناح المتشدد في المؤسسة الشيعية القريب من إيران بتحجيم وتهميش وتدجين القيادات السياسية الأخرى بمختلف الوسائل عبر اللعبة الديمقراطية أحياناً وعبر اللُعب المليشياوية أحياناً أخرى ولم يبق أمامه لوضع اليد على كامل العراق غير لي الذراع الكردي الذي تكمن قوته في قوة الإقليم شبه المستقل الذي حرص قادته حتى الآن على النأي به عن الصراعات الدائرة.
شهدنا مؤخراً جلسة استجواب في مجلس النواب العراقي لوزير المالية هوشيار زيباري أعقبتها جلسة أخرى للتصويت على مدى قناعة المجلس بأجوبته حيث لم تكن النتيجة في صالحه وهي مقدمة لسحب الثقة منه وإقالته، صاحب الجلسة الثانية هرج ومرج واشتباك بالأيادي، ورغم أن استجواب أي مسؤول هو من صلاحيات وواجبات مجلس النواب باعتباره أعلى جهة رقابية إلا أن استجواب الوزير زيباري لم يخل من هدف سياسي، فهو أبرز وزير كردي في الحكومة العراقية منذ 2003 ومن المقربين جدا لرئيس الإقليم ويعتبر جسر التواصل بين الإقليم والحكومة المركزية في بغداد.
الخلافات بين بغداد وأربيل ليست جديدة فحلفاء الأمس، الأحزاب الشيعية والكردية، الذين فرضوا سيطرتهم على العملية السياسية منذ التغيير عام 2003 بدؤوا بالإفتراق بشكل جلي منذ تأجيل تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي الخاصة بالتعامل مع المناطق المتنازع عليها نهاية 2007، وتصاعدت هذه الخلافات وازدادت توتراً بعد نقض نوري المالكي اتفاقية أربيل 2010 التي هيأته لرئاسة الوزراء في ولاية ثانية. هذا الإفتراق لم يكن غير متوقع فلكل طرف أهداف واستراتيجيات لا يمكن أن تبقيهما تحت سقف واحد لأمد طويل، فالأحزاب الشيعية تسعى لإعلاء شأن الطائفة وتعزيز هيمنتها على العراق كله أما الكرد فيسكنهم هاجس الإقليم وهمومه وتعزيز دعائمه وتحقيق المزيد من الإستقلالية له.
إلا أن الخلافات بين الطرفين لم تسهم في تفكيك هذا التحالف فحسب بل أوصلته إلى أقصى درجات الإحتقان بعد سيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل وتبادل الإتهامات حول المسؤولية عن ذلك وها هي توشك أن تقود أطرافه إلى مواجهات مسلحة، فمع وصول الإستعدادات لمعركة تحرير الموصل من تنظيم داعش مراحلها النهائية بدأت البؤر التي تنذر بحدوث المواجهات تتضح بشكل جلي، فالحشد الشعبي غير المنضبط يصر على أن يكون له حضور في معركة التحرير في الوقت الذي لا يرغب الكرد بوجود هذا الحشد بالقرب منهم وذلك لأسباب تتعلق بأمن الإقليم لأن بعض قادة المليشيات المنضوية تحت لوائه يجهرون بولائهم لإيران ولا يضمرون نوايا حسنة تجاه الكرد وليس بخاف بأن العلاقات بين الإقليم وإيران ليست بحالة جيدة بعد اندلاع الثورة المسلحة الكردية في إيران والتهديدات التي تلقاها الإقليم من قيادات الحرس الثوري الإيراني وبعد عمليات القصف المدفعي التي تعرض لها الإقليم من الجانب الإيراني، هذا إضافة إلى الخلافات الشديدة حول عائدية بعض المناطق التي يسكنها الشيعة والتي يعتبرها الإقليم تابعة له جغرافياً في حين يرغب الحشد على جعلها تحت حمايته مما قد يشعل صراعاً مسلحاً مع قوات البيشمركة.
الكرد لا يرغبون بخوض صراع مسلح مع بغداد، فالإقليم ليس في أحسن حالاته حيث إن لديه الكثير من المتاعب على المستويين الإقتصادي والسياسي وقد شهدنا الإنقسام داخل البيت الكردي في المجلس النيابي حول الموقف من الوزير زيباري.
واستباقاً لمعركة الموصل ورغبة في تفادي المزيد من التردي في العلاقات بادر الإقليم بإرسال وفد رفيع المستوى برئاسة نيجرفان البارزاني رئيس الوزراء لبحث القضايا الكثيرة العالقة منذ سنوات بين العاصمتين بغداد وأربيل إلا أن ما سيكون على رأسها أبرز الإشكاليات التي تتعلق بالمعركة وهي تمسك القوات الكردية باستقلاليتها في القتال تحت قيادة وزارة البيشمركة وعدم تلقي الأوامر من وزارة الدفاع العراقية وهو ما ترفضه الحكومة العراقية بشدة،
نقلًا عن صحيفة البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة